البلاد الصفراء

في البلاد الصفراء كل شيء صار باهتا وأصفر من علم البلاد وجدران البيوت وأرصفة الشوارع و أدمغة الناس إلى مشاعرهم التي صارت صفراء ككل شيء في البلاد.
فمند أن تولى الاب القائد القائد العظيم مقاليد الحكم ومصير البلاد وكل شيء يحدث بمنطق الواحد.. منطق الزعيم, فلم يقصر في ابتكار النظريات بل وحتى تجربتها على شعبه ليثبت نجاحها حتى يسهل تصديرها بالالوان إلى كل الشعوب المقهورة !! وينعم العالم بالحرية و الديمقراطية التي طالب ووعد بها منذ أن جلس على كرسي الحكم والسيادة .
فكان أول قراراته تغيير علم البلاد إلى راية بلون واحد, الاصفر رمزا للحقيقة والحرية وكذلك تغيير اسم البلاد ليكون أصفريا الشعبية الديموقراطية العربية, وذلك ليثبت ديموقراطيته بعد أن أصر البعض على تسميتها العشائرية العربية وآخرون العشائرية الشعبية وآخرون العشائرية الديموقراطية.
فكان أن جعلها كذلك حتى لايطيب خاطرا على حساب الاخر, فالقائد كان حنونا وأبا لكل الشعب فأول ما اهتم به في البلاد هو جيل المستقبل بالتأكيد, فقضى ليال وليالي وهو جالس خلف كرسيه يسقط عصارة خبراته وكل ما قراه وعرفه في كتاب شبه دستور للبلاد سماه الكتاب الأصفر فكان الصغار في الكتاب يحفظون بتوجيهاته صفحة من القرآن الكريم وصفحة من الكتاب الاصفر على غرار فكرة ماوتسي تونغ في الصين..
وحتى لا يصير ذلك المجهود تلقينا, أنشأ تحت إشرافه ما أسماه بالشبيبة الصفراء يلتحق بها كل من وصل إلى مستوى التعليم الإعدادي على غرار الشبيبة الهتلرية في العهد النازي كي يستعدوا نفسيا ومعنويا لخدمة البلاد ومبادئ الحرية على أكمل وجه و يحصنوا مبكرا ضد كل فكر هدام يشوش تفكيرهم ويغير توجههم. وحين يدركون مبلغ الرجال..
يلتحقون إلى الحزب الاصفر ليواصلوا مسيرة التحرير والبناء..
كان زعيما ذكيا, دقيقا ولامحا إلى أبعد الحدود فلا يفوته شيء أو حدث محلي أو إقليمي أو دولي إلا وحضر على أثير الاذاعة المحلية ليعلق أو يفسر أ يحذر من أي شيء قد يخل باتجاهات الحرية والديمقراطية في البلاد فصار ظهوره اليومي متوقعا..
لم يسمح بأي خلل في النظام الذي جاهد ليصير قويا فكان يضرب بيد من حديد على كل مسؤول متهاون, مختلس أو خائن فيقيم الحدود عليهم عبر الاذاعة المحلية حتى تكون فضيحتهم في كل أرجاء الكرة الأرضية..
لكن مع الزمن صار عددهم يكبر وذاكرة الصغار تضعف والهمم تقل, صار كل شيء عاديا وسماعه على الراديو عاديا فيقفل بمجرد سماعه.. وصار التغيب عن المؤتمرات العامة متزايدا.. وإن حضر بعضهم فهم نيام على الكراسي إلى أن يستيقظوا على إشارة التصفيق فينتفضوا ليشاركوا في تصفيق حار ويتنفسوا الصعداء لأنها إشارة لنهاية الخطاب !
فكان على الاب القائد أن يبحث عن سبب هذا الوباء الذي أصاب شعبه فأعلن حالة الطوارئ في مكتبه ليبحث العارفون عن السبب ويبطل في أسرع وقت هذا العجب..فكانت التقارير كلها تشير إلى حالة ملل واكتئاب لدى الشعب .. سببها رغبتهم في التغيير مع عدوى العولمة والانفتاح.
خصوصا بعد غزو التلفاز كل البيوت الصفراء.. وأنه لبد من إيجاد فكر مضاد أو تغيير في النظام لتزول حالة الملل والاكتئاب في البلاد وتجدد اهتماماتهم ورغباتهم.
فكر الأب القائد العظيم كثيرا في الموضوع من كل الزوايا فإذا أوجد نظاما مضادا ربما ترك الفرصة للتدخل الخارجي وربما اتهموه بالخضوع للضغط الدولي أو العمالة !!
قضى ليلته في البحث عن حل يعيد به اهتمام شعبه وحبه واحترامه.. فكر طويلا.. طويلا.. طويلا.. ووجده !
__________________________________________________
-2-
في مساء اليوم التالي كانت البلاد غير البلاد.. تحت كل عمود نور هناك عسكري, عند كل مفترق تجد دورية تفتيش, وفي كل سيارة أمن هناك العشرات ممن وقفوا بسبب أو باشتباه.
أصبح هناك نشاط غير عادي في مخفر الشرطة الوحيد وكل من يرتدي البزات الرسمية ظهرت عليهم أعراض التبجح و البلطجة..أنتظر الشعب الاصفر مع حالة الطوارئ تلك الغير اعتيادية ظهور القائد اليومي, لكنه لم يظهر ليشرح بإسهاب ويبسط ما هو صعب استيعابه كعادته..
حتى زاوية ((شكاوي من مواطنين)) على جرائد الحوائط الرسمية للمخيم ألغيت واحتلت مكانها إعلانات للهواتف النقالة والسلع المستوردة.. وكل المقالات كانت تستأصل من الحوائط فلا تصل إلى المسامع أو إلى من يهمه الأمر.
وطارت حالة الاكتئاب وحلت معها حالة إرهاب !! وفهم الشعب الأصفر بذكائه الفطري بعد قرار منع التجمع والتظاهر بدون ترخيص أن هناك قرارا آخر سبقه لم يعلن عنه وهو تغيير أسم البلاد من أصفريا الشعبية الديمقراطية العربية, إلى الديكتاتورية الشعبية الديمقراطية العربية.
ومع كل ذلك الحصار المتعمد اجتمع كبار السن والعقلاء سرا لتدارس الوضع العام بعد ضغط المشتكين المتزايد عليهم..
-هااه ما رائيكم ياشيوخ..
-نحن في الاول والاخير بدو تعودنا على الرعي وأكل التمر وشرب الحليب عشنا دائما بكرامة ولن نبيعها بهاتف نقال أو تلفزيون بالألوان !!!
-يعني نرجع للرعي و الترحال؟
-يعني كنا عنموت من غير كهرباء ومعجون سنان وشامبو !!؟
-عندك حق ياشيخ.. إحنا نرعى المواشي مانتراعى كالمواشي..
-نحن لازال لدينا وطن آخر وأنتم عرفتم أنه غفور رحيم..
-يريد أن يحكم !! حلال عليه المكاتب والكراسي..
-اتفقنا ياشيوخ.. ابتدئا من الغد سنعلن مقاطعتنا لكل ما هو حكومي.. وسنقدم على إثر ذلك مذكرة إلى الامم المتحدة.. نطالب فيها بالتدخل السريع والعاجل.. سنرجع من حيث أتينا.. سنرجع إلى الوطن..
_________________________________________________
-3-
استيقظ القائد على هدوء غريب في البلاد.. فقرر إقامة جولة ليطمئن على أحوال شعبه المحبوب بعد درس التأديب والذي كما يبدو نجح تماما كما خطط له, وصار شعبه الحبيب طيعا ومطيعا ومستعد الان ليصغي باهتمام من جديد ويستقيم إلى بناء الدولة لكنه تفاجأ بشوارع المخيم خالية !
الدوائر خالية !
ونص الحرس اختفوا من الشوارع والثكنات !!
استدار إلى أحد مساعديه وهو يسأله في هدوء
-ما الذي يحدث في البلاد اليوم !!?
-………..
-انحنى أحد حراسه على كتفه وهو يقول بصوت خافت
-الشعب بيقول ايها الاب القائد العظيم.. مايريدوا
-يعني كيف ما يردوا!!
-ما يريدوا دولة.. رجعوا يرعوا جمال ويزرعوا حشيش وبعد إذنك بيقولوا..
-تكلم إيش بيقولوا !!
-بيقولوا احكم الكراسي والمكاتب هي ما منها خطر وما بتخوف..
الشعب الصحراوي لديه وطن غفور رحيم- !!!!!!
تمت
كاتب النص : آمال عكيفي
من المجموعة القصصية (حكاية لما قبل النوم)
رقم الايداع :319 لسنة 6-7-2005م
بدار الثقافة
قدمت للنشر لدى مؤسسة التوجيه المعنوي بصنعاء يوليو 2006

0 التعليقات:

إرسال تعليق


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..