الفرخة الدايخة

الأنوار تعانق الأصوات,شعاع العيون يرسم دائرة مركزها صاحبت الفستان الأبيض والتاج اللامع, يا لها من عروس رائعة! تحيط كفى عريسها في اشتياق, وهو بدوره يدنو بمقلتيه نحوها,تنطبق جفونه من حين لآخر, وكأنه يمنى نفسه بعش الزوجية الدافئ,لحظات وتحقق له ما أراد.

ترك عروسه في غرفة النوم وذهب يبحث عن وسيلة تطيل الحب,وعاد فوجدها قد استبدلت فستانها الأبيض بقميص نوم أسمر مثير,يبرز أكثر مما يخفى,تفوح منها رائحة عطرة,وتحيطها بها هالة تمزج ما بين الرغبة والخجل والخوف في آن واحد.

ابتسم بخبث وهو يتقدم منها,عناق بسيط,همسات,ضحكات,بدأت معها الإضاءة في التلاشي تدريجيا
,لتضفى جوا من الخصوصية,فترة سكون.

الإضاءة تنتفض,وكأنها استجابة لنظراته الزائغة وحرارة أنفاسه المتتالية,لملمت ساقيها بانكسار, رفعت رأسها ببطء,التقت نظراتهما,رعد وبرق يصطدم بتوسلات مكتومة.

استجمع ما بقى من كبريائه,واخذ نفسا طويلا وكأنه خرج من قاع المحيط,وابتلع ريقه بصعوبة و صاح:مين؟!!!!!!!!

أقصى علامات الذهول هبطت على ملامحها, لم تتحمل هذا الاتهام الصريح, لم تصدق آلاف التساؤلات التي نحتت تضاريس وجهه والذي ظهرت عليه فجأة أعراض الشيخوخة.

بدا يهذى:طب ليه؟.. وعشان إيه؟
حاولت استدعاء بعض الكلمات من مخزن ذاكرتها,رتبتها باستعجال,وبنبرة مترددة:
ماخنتكش.. وأنت عارف..أنا بحبك أد.
صفعة قوية على وجهها الشاحب,بطرت عبارتها وجعلت الإضاءة تهتز بعنف,صرخ بانفعال:
حب!.. حب إيه؟!..مستعد اغفر اى حاجة..اى حاجة..
يضغط على مخارج الألفاظ:إلا..الخيانة.
تحسست اثر الصفعة الغائرة,استردت بعض شجاعتها المتوارية,وخرجت كلماتها كالحمم البركانية:
أنا مش خاينة..أنا مش خاينة..أنا مش خاينة.
ظل صدى كلماتها يتردد في أنحاء الغرفة لفترة ليست بالقصيرة,إلى أن صاح وهو يدق بيده على إحدى ساقيه:
الشرف زى الزجاج..إذا كسر لا يلحم.
تحسست اثر الصفعة مرة أخرى,وكأنها تمدها بالقوة,وبتحدي قالت:
الجسم لوحده..مش رمز للشرف..والبكارة مش مرتبطة بالطهارة.. دا حاجة بس..عشان ترضى غرور الراجل الشرقي.

صاح بغيظ:
فض البكارة مش عملية بيولوجية..دي عملية نفسية بتقدم فيها الزوجة لزوجها.. دليل عفتها..و..
تقاطعه قائلة:
طب لو العذرية.. دليل للعفة قبل الجواز..فأيه دليلها بعده؟..إحنا مش سلعة..لازم لها علامة تجارية.. والا بقت مغشوشة..لازم التخلص منها..ماحنش عربيات..اللي ع الزيرو لها تمن..والمستعملة لها تمن.
أشاح بوجهه عنها.
صاحت بعناد:
انتوا مش آلهة.. بتغلطوا.. ومحدش بيحسبكوا.. ليه؟.عشان رجاله.
وكأنه يكلم نفسه:
سمعتي؟..سمعة العيلة؟
استردت باقي شجاعتها وتقمصت شخصية من تدافع على بنى جنسها,وصاحت بسخرية:
عملية بسيطة..ترقع سمعتك.. وسمعة العيلة اللي بتتكلم عنها.. لو كنت خاينة بصحيح.. كنت عملت كده.
نظر إليها وباشمئزاز قال:
نفس منطق المومس الفاضلة.. عند سارتر.. قلب الحقائق.. بقيت أنا الجاني وأنت.. المجني عليها.
نظرت إليه وقد حز فيها ما قاله, وهزت رأسها بالنفي قائلة:
مفيش جاني..ولا مجني عليه.. للأسف.. توزيع ادوار.
صاح وهو يبدل ملابسه:
الخيانة..مرض ميئوس منه.. علاجه الوحيد هو..الاستئصال.
حاولت أن تمنع دموعها ولكنها فشلت,وبحلاوة روح قالت:
معقول حلاوة الحب..تنقلب في لحظة..لخيبة أمل..معقول!!
قال بعصبية:الكرامة فوق الحب..فوق كل شيء..حتى العرف والتقاليد..فوق.
تقاطعه قائلة:ربنا بيغفر.
نظر إليها بنظارات ثاقبة وكأنه يوجه إليها تحذيرا شديد اللهجة,وقال:
ربنا بيغفر وهو راضى.. الامتحان خلص.. ومفيش دور تانى.
وكأنها تستحلفه بذكرياتهما المشتركة,قائلة:
ادينى فرصة تانية.
انتهى من ارتداء ملابسه,واتجه إلى باب الغرفة,وقبل أن يغادرها,وقف والتفت لها,وصاح:
الوحيد اللي ممكن يديكى الفرصة دي.. هو أبوكى.. الحاج عوض.. الصعيدي.. مش أنا.
غادر الغرفة بسرعة, وكأنه يتحاشى نظراتها المتوسلة, أغلق الباب خلفه بعنف, وكأنه اسقط لافته كانت معلقة عليه, كتب عليها بالبنط الكبير, ممنوع الاقتراب أو التصوير.
وكالفرخة الدايخة تنبأت بمصيرها المحتوم, فالدفاع والنيابة ضدها.. ضمنت الإعدام.. جذبت قميص الحداد الأسود لتستر نفسها, رفعت يديها إلى السماء, ولسان حالها يقول, لم يعد أمامي إلا بابك, فهو الباب الوحيد الذي لا يغلق.


كاتب وسينارست مصرى/ وائل مصباح
دراسات عليا فى الفلسفة والاجتماع
0101261829 & 0114005523

ديك جدي والسلطان المولى إسماعيل

المصدر كان جدتي:
عندما تصل مدينة بن سليمان الزراعية الجميلة لبد أن تصطدم بزوار "ضريح الولي الصالح سيدي محمد بن سليمان", من الباحثين عن أمل وخيوط رفيعة في رحلة ضياعهم وتنقلهم من ضريح لأخر..
الشريف الإدريسي محمد بن سليمان أزداد أواخر القرن العاشر الهجري, خرج وهو في الثلاثين من عمره من بيت العائلة إلى منطقة دكالة حيث كان يعطي دروسا في الدين والقرأن الكريم ولا يتوانى عن تقديم النصائح والمواعظ. ليتجه بعد ذلك إلى منطقة أبي الجعد وهناك تزوج من السيدة زهرة بنت سالم التي رافقته في مختلف تنقلاته إلى أن استقر به الحال في منطقة أولاد زيان التي مكث فيها مدة طويلة أنجب خلالها أطفاله لينتقل بعد ذلك إلى منطقة الزيايدة بإقليم ابن سليمان التي توفي ودفن فيها..
ويحكي أبناء تلك المنطقة نقلا عن أجدادهم الكثير من القصص والحكايات عن كراماته وخوارقه.. من بينها أنه بعد وفاته تم زرع قصيبتين واحدة على اليمين وأخرى على اليسار ولما كبرت هاتان القصيبتان أصبحتا نخلتين ورأى أبناء المنطقة في ذلك معجزة من المعجزات , ومن الامور الخارقة التي تناقلها سكان المنطقة أبا عن جد..
وفي 22 ربيع التاني سنة 1132ه م 1719م عندما كان السلطان مولاي إسماعيل على رأس جيشه في المنطقة أمر ببناء الضريح تيمنا ببركته بعد أن زاره الولي في منامه, فأصدر السلطان ظهيرا شريفا عين بمقتضاه السيد أحمد السبتي بن السيد الطنجي مقدما على الزاوية وبعدها حدد مولاي إسماعيل أرضا شاسعة قدرت مساحتها بنحو 4535 هكتارا وهبها إلى سلالة السليمانيين وأمر بإقامة موسم كبير ينظم مع نهاية كل موسم فلاحي,ومع دخول المستعمر الفرنسي أخذ هذا الاخير أطرافا عديدة منها ووزعها على المعمرين الفرنسيين وبعد الاستقلال تم استرجاع هذه الاراضي التي استولت عليها الاملاك المخزنية لتصبح المساحة الاجمالية الان 939هكتاراخضع الضريخ لترميمات وإصلاحات كان أخرها في فاتح رمضان سنة 1409ه ويضم الان مسجدا و8غرف للكراء وقد تم تأسيس جمعية رابطة للمحافظة على الضريح والدفاع عن مصالح أبنائه !!

كانت هذه الرواية الرسمية عن جدنا محمد بن سليمان وقصة ضريحه التي علمتها من خلال بحثي عن شجرة العائلة.. لكن الرواية التي سمعتها طوال حياتي على لسان جدتي كانت مختلفة تماما, لذلك لم أخد مسألة النسب الشريف بجدية مما ساعدني على بناء شخصيتي بشكل طبيعي دون عقد نرجسية أو أنا مضخمة كما كان الحال مع أغلب من قابلتهم من أل البيت !!

جدتي الارملة باعت بعد رحيل جدي رحمه الله أراضيها في منطقة اولاد زيان وأبقارها الواحدة تلوى الاخرى لكي تعيل أطفالها وأشترت في أخر المطاف بيتا واسعا أنتهت بمبادلته بآخر صغير حتى تجبر أبناءها على الاستقلال بأنفسهم وعوائلهم.. هذه هي جدتي بكل عنادها وحسها القيادي التي تمتعت به طوال حياتها !!

جدتي أعتبرتها دائما أمرأة خارقة ليس لأنها كما تتباهى ويردد أبناءها صاحبة دعوة مستجابة بسرعة الصاروخ, وإنما لأنها صاحبة شخصية قوية جدا, ومعارف في كل ما ينبت على الأرض وفي الأجساد, قد تدهشك عندما تتألم من شيء بقولها خد الاعشاب الفلانية , فتمضي الاعوام والسنين لتجد أن جدتك كانت على حق وأن الاعشاب التي وصفتها تحمل خصائص عجيبة توصلت لها أخر الأبحاث وكانت جدتي على علم بها قبل علماء أمريكا !!

جدتي كانت خبيرة بطبائع البشر, فكان الكل ولا يزالون يحذرون من تعليقاتها ويعتبرون ما قالته بمثابة بطاقة شخصية لمن علقت عليه حيث يكفي الانتظار حتى تبث الأيام صحتها !!

جدتي كانت قائدة معارك من الدرجة الممتازة, فلا يمكن أن تدخل بيتنا دون أن تعاقب أمي وتكون السبب في خصام بين والدي, فطريقتها في قلب الأحداث لصالحها كانت احترافية.. لكن أمام كل جبروتها لم تستطع لمرة في كل حياتها أن تخضعني لأوامرها مهما حاولت, فقد كنت قوية مثلها ولا أستسلم مهما كان التهديد والوعيد, إلى أن جاء يوم بدأت علاقتي بها تبنى على الندية, كيف ؟اكتشفت جدتي أنني من يحمل بركة جدنا الذي تحكي عنه في كل مناسبة وتتباهى أنها من أسلافه وزوجة لآخر من أسلافه.. كيف ذلك !!

لأنها رأت رؤية وسألت الكل عن تسفيرها, وكنت الوحيدة التي تجرأت وأنا في السابعة من العمر لأفسر لها رؤيتها وأقول :
- أنت تكثرين من الصلاة والصيام لكنك بطريقة ما ترتكبين ذنوب ومعاصي صغيرة تكثر يوما عن يوم ويجب أن تثوبي إلى الله حتى لا تضيع صلاتك وصيامك..

وهكذا لم تتوقف الزيارات عن منزلنا ولا المكالمات الهاتفية بمكتب والدي والكل يستفسر عما جعل جدتي تحولني إلى هدف مكتف لدعواتها الصاروخية في كل مناسبة وتنعتني بالوقحة قليلة الأدب!!
ومرت الأيام وجدتي لم تتوقف عن سرد قصة حفيدتها الوقحة لكل من تقابله إلى أن كانت أخر حكاية لها بالمسجد وهي تعيد سرد القصة للنساء بين صلاة المغرب والعشاء ناعتة إياي بقليلة عقل وقلية تربية, فاستطردت إحدى الحاجات للبيت وهي تقول :
- حفيدتك ليست قليلة عقل ولا قليلة تربية, أنت سألت وهي أجابتك بما طلبت.. يبدو أن حفيدتك قد أنعم الله عليها ببركة العلم الرباني فتفسيرها يقول أن عقلها يسبق سنها..
وهكذا رضيت عني جدتي وصرت حفيدتها المفضلة , لأنني من ورثت حسب قولها بركة علم جدنا الكبير بن سليمان.. صاحب الدعوات المستجابة والعلم الرباني, فهي توقفت عن إطلاق صواريخها باتجاهي حتى لا يصيبها صاروخ مضاد!!
ورغم هذا لم أهتم في مرة حتى أعرف من هو بن سليمان الذي لا تتوقف جدتي عن سرد حكايته.. ومرت سنين وطعنت جدتي في السن ووهن عظمها ومعه كل جسدها إلا لسانها فلم يتخلى عن سلاطته , ووجدت نفسي بحاجة إلى أن أبرها وأغرقها بالطاعة والحنان , وأصبحنا قريبتين أكثر من بعضنا ووجدت نفسي أستمع لحكاياتها عن جدنا الكبير الذي لم أهتم مرة وأنا صغيرة أن أعرف عما تتحدث لأني كنت أعتبر جدتي ساعتها ثرثارة وقليلة عقل.
ديك جدي!!
جدتي تقول أن بن سليمان هذا له أجداد في اليمن, كان يسكن منطقة أولاد زيان في ضواحي الدار البيضاء الحالية, وكان له سبع أولاد صغار, أوحى لهم شيطانهم أن يلعبوا بكعاب نعجة جارهم.. فاشتكاهم إلى أبيهم فدعي عليهم بالموت واحدا تلو الأخر قبل المغرب, وكان ذلك في العصر.. وبالفعل مات صغاره.. ومن قهره عليهم مرض وقبل وفاته أوصى أبنه أن يضعه على بغلته ويتركها تحمله إلى المكان الذي تتوقف فيه وهناك مكان دفنه..

وبالفعل دفن جدنا بعيدا في مكان قفر لا زرع فيه ولا حياة.. وببركته قامت غابة كبيرة.. وفي يوم كانت أحدى الراعيات بالقرب من قبره فأخذت تحادثه وتتساءل كيف كانت ميتته؟ هل كانت ميتة الخالق أم بيد غادر؟.. أكان من الصالحين فوجد من يستره في الخلاء أم كان من العاصين فتبرأ منه ونبد عن مقابر المسلمين.. فوضعت كتكوتا كان بيدها بجانب قبره وقالت :
- إن كنت من الصالحين فهذا المخلوق سيجد رزقه معك وإن كنت من الطالحين فشرك سيطاله..
وكبر الديك بجانب القبر وجاء ليلة مر بها السلطان المولي اسماعيل وضرب خيامه بجانبه, فوجد خدمه الديك وذبحوه لعشاء السلطان.. فحرم السلطان من النوم تلك الليلة لأن ديك جدي كان يصيح في بطنه !!
فسأل السلطان من صاحب الديك؟ فأجاب خدمه بأنه ديك بلا صاحب كان بجانب قبر منسي.. فأمر ببناء قبة على قبر ذلك الرجل الصالح..
وعندما ذهب أبناءه لزيارته في عشوراء وجدوا القبة عليه.. وهكذا صار لجدنا سنوية وذبيحة.. وأتباع.. ورقص وموسيقى وموسم وتجارة.. أوكما سخرت عمتي من عمي حين أقر بحرمة الاحتفال بأعياد ميلاد أطفاله وقالت : (ولما أعياد الميلاد حرام إذا كان أشرف واحد في العباسيين السليمانيين تقام له حفلة عيد ميلاد سنوية !!)..

لم أهتم أن أعرف أكثر عن بن سليمان مع اعتزازي أن لي جدا صالحا.. فقصص البركة والتبرك لا تستهوني, ومقتنعة أن كل أمرئ يقاس بعمله لا ببركة جده.. ولم أعلم أن بن سليمان من السليمانيين الادارسة الاشراف إلى أن جاء يوم ونحن في عزاء وأحد الحاضرات تنصح أحد قريباتنا بزيارة جدنا حتى تحل عليها البركة, هناك أستفزني الموضوع فطلبت منها أن تتوقف عن تلك النصيحة.. فالله أقرب لها من زيارة مكلفة إلى جدنا الذي أصبحت أشفق عليه من كل الدجل الذي يصاحب ضريحه..
لكن عمتي اعتبرت ذلك تقليلا من شأن جدنا, وهي تردد أننا أشراف من سلالة الاشراف..وهناك علمت أنه كان من الاشراف العباسيين السليمانيين الادارسة !!
لذلك كانت عائلة والدي معفية من الضرائب قبل الحماية الفرنسية وخلالها بأمر من السلطان..

في ذلك الوقت انتابني غرور عجيب كوني أحمل دما شريفا .. لأيام وربما أسابيع !! بعدها خجلت من نفسي, كوني فعلت ما كان يفر منه جدي بتنقله من مكان لأخر, لقد كنت على وشك أن أسلم نفسي للشيطان.. فالتكبر والغرور بتفضيل الذات والنفس أقبح ما يمكن أن يقع فيه شخص ما.. فما أخرج الشيطان من الجنة ؟ فضل ورأى نفسه أحسن من سيدنا آدم, (خلقتني من نار وخلقته من طين)!

جدي العائد إلى اليمن!!
وسافرت إلى اليمن.. وجربت أن أعيش بعيدة عن العائلة.. وكان انيسي في وحدتي.. قرآني وصلاتي وذكر الله.. ووجدت نفسي أتذكر بن سليمان وبني عبس.. وصار يحظرني أكثر كلما تحدث أحدهم عن السادة.. ففي بلادي لم أكن حتى أذكر أني من الشرفة السليمانية.. كان يستفزني أن يفتخر أحد بانتسابه لأهل البيت.. لدرجة أن أنفرهم كليا حين أراهم بدون أخلاق وأدب ويسكنهم الغرور والتكبر .. إلا من رحم ربي وهم قليلون ممن حافظت عليهم كأصدقاء..

قراءتي للقرآن والتأمل في معانيه أوصلتني لنظريات كثيرة كان من بينها, أسبقية بلقيس لنظام الديمقراطية وكيف أن سورة النمل كانت شهادة تفضيل من الله لبلقيس.. وسبب اختيارها لتكون من عباد الله لا من عباد الشمس حيث مهد السبيل لهدايتها.. وكانت هذه النظرية نواة كتاب قضيت فيه ثلاث سنوات من البحث, مع العلم أن حياتي لم تكن سهلة في اليمن.. تحملت الكثير حتى أمهد للخروج به , لكن الأقدار لعبت دورها.. وصلت مقالة لخصت فيها الأفكار الرئيسة لكتابي عن طريق مؤسسة الميثاق والتي سلمتها للسيد عاصم جلال رئيس تحرير مجلة المنطلق, لينشرها ضمن العدد الأول إلى يد عبدالقادر باجمال!!

فجأة وأنا أتابع الحملة الانتخابية الرئاسية على التلفزيون اليمني, أفاجأ برئيس الوزراء السابق عبد القادر باجمال في مؤتمر صحفي يحمل صفة ندوة, يهنئ نفسه.. أنه اكتشف أن قصة بلقيس في سورة النمل.. تثبت أن الديمقراطية أصيلة في المجتمع اليمني!!

لزمت الصمت وقلت أكيد نشرت مقالتي في المنطلق..
لكنها لم تنشر !! هدئت نفسي ساعتها بالقول أن تبني رئيس جمهورية لأفكاري التي احتوتها المقالة خلال حملته الانتخابية شهادة تقدير أعتز بها.. وباعتباري ممن أيدوا ترشيحه من جديد وتحمسوا بشدة لنجاحه.. وأقنعت نفسي أنه بعد الانتخابات سيكون هناك تفسير وأعتذار, ولم اجد إلا حصارا كاملا لمقالاتي ووجودي ككاتبة, وأكتفى كل من قدمت لهم شكواي بالقول أن الجهة الوحيدة التي يمكنها استرجاع حقوقي الادبية من باجمال هي "رئيس الجمهورية"..

لكن لا يوجد أحد مستعد لتوريط نفسه في قضية ضده وهناك من نصحني بالدعاء عيله.. وهذا ما لم أقصر فيه لأنني أجيده بالوراثة!!
وهكذا قضيت ليال وأنا أبكي, وأبث حزني وشكوتي إلى الله, وفي النهاية وجدت نفسي أحول بحثي واهتماماتي إلى نسق أخر.. الجماعات السرية !

كان هذا بتشجيع من صديق أجنبي فاجأته أكثر من مرة بصدق توقعاتي لتحركات الجماعات الإرهابية.. وحمدت الله على ما فعله باجمال, لقد كان سببا في اكتشافي لأشياء كثيرة عن نفسي أولها, عنادي في الوصول إلى ما أريده وثانيها تكيفي مع الضربات القاسمة للظهر !!

فباجمال بحث عن مجد دنيوي بظلمه لي , وأبحاثي كانت مند البداية لمجد أخروي وصدقتي الجارية التي أرجوها من الله .. وربي لا يضيع عمل عامل.
دعوا جدي يرقد في سلام
ساعتها فقط فهمت لما طلب جدي أن يدفنوه بعيدا.. ذلك الرجل كان صاحب علم رباني.. جدي تبرئ بنفيه لنفسه من كل ما سيحدث من بعده بجانب قبره, تبرئ من جنون التقديس الذي سيطال أحجار ضريحه بعد رحيله, وكان ذلك..
فحتى في منفاه لم يتركوه وشأنه..
ووجدت نفسي ابحث أن أعرف أكثر عن أصهارنا وأبناء العمومة باليمن, وعن حرض وحجة وهمدان وأبحث أكثر أي العباسيين قصدت جدتي أم أنهم العبسيين؟ ووجدت نفسي مكتفية بما عرفته..
المهم أني أول من تعود إلى أرض الاجداد من ذرية محمد بن سليمان وتحقق رغبة أول هارب ومنفي من أجداده إلى المغرب.. بالعودة إلى اليمن والبر بأهله ..
كلما صعدت جبل أو نزلت إلى وادي.. كنت أترحم عليه وأصف له الأماكن .. أصف له الشمس والقمر والمطر وبرد وحرارة اليمن.. وأسأله في كل مرة إن كان فخورا بي.. لكنه لم يكن ليجيبني..
كان جدي بن سليمان دائما حاضرا كقدوة أمامي.. كنت أريده فقط أن يعلم أني فهمت ما أراده مند البداية.. وأني حاولت ولا أزال أن أكون كما أراد ذريته أن تكون .. شريفة بعمل صالح .. شريفة بقلب مؤمن موحد لله رب العالمين, سباقة للخيرات, ناهية عن منكرات, ناصحة أمينة, وعضة بما علمها ربها, كريمة ومحسنة, عفيفة اللسان واليد مع كل من ساقهم الله في طريقها.. بارة به وبوالديها, وبكل من وصل من الأرذل عمره..
أعلم أني لن أصل إلى درجة تقواه وإجتهاده.. لكنني حاولت وأحاول أن أكون حفيدته المفضلة..
رحمة الله على كل المسلمين في كل زمان ومكان..لازلت مترددة في الذهاب إلى ضريحه وزيارته.. فأنا أشفق علي رؤية قبره بكل الذي يشهده من دجل وما يمارس بجانبه.. لأستطيع أن أشارك في الصمت عن ما يحدث عند رأسه..
حين تذخل ضريح جدي لن تجد أحفاده.. لم يعد لنا مكان في ضريحه .. ستجد مريديه من طالبي الزواج والعلاج والذرية أو الحظ الجيد.. وتجد في كل مكان قارئات الطالع والمشعوذين.. واللصوص الذين يستغلون المكان المزدحم.. وقد فشل جدي في الهروب منهم.. وفشل في أن يرقد بسلام كباقي البشر..
حتى بطاقة الاشراف التي لم تهتم جدتي الأرملة وأيتامها بالبحث عنها, لأجدها ضرورية لأنني أعتبرها ذجلا آخر بإسم جدي..
قال الله تعالى في سورة البقره الآيه 124 لنبيه ابراهيم "اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين"
فل ترقد جدي الحبيب في سلام وكل الصالحين الذين أرادوا أن يرقدوا مثلك في سلام..

أرشيف البلاد العائمة

من مجموعة حكاية لما قبل النو م2006

التسجيل الاول : رئيس المجلس الاستشاري لفنيسيا العرب
- اليوم نفتتح فينيسيا العرب, ليشهد التاريخ هذا اليوم التاريخي بمشروعنا الذي صار حقيقة سيغير مساره إلى الأبد, سنفتتح بلادنا التي لن يسودها القمع والاستبداد ولا استغلال النفوذ ولا مصادرة للكلام والآراء ولا ! للتفرقة العنصرية أو الدينية.. لن يكون إلا الصدق والاحترام والحب والتسامح..
كما أرادها أفلاطون يوما. مدينة النور والسلام والحب,, وباعتباري من اخترتموه وشرفتموه كي يكون رئيس كبار المستشارين لبلادنا الجديدة على خريطة العالم الحر.. أشكر كل من ساعد على خروج حلمنا إلى الوجود وكل من حضر اليوم من السادة أصحاب الجلالة وأصحاب السمو والفخامة وأصحاب السعادة,, والذين باركوا مشروعنا وأمدونا بالتجهيزات الفوقية من أسلاك الكهرباء والاتصال واستقبلوا أسلاك التثبيت على أراضيهم والتي ستضمن استقرار القطعة المطاطية المتميزة التي تحمل هذه البلاد حتى تضمن استقرارها الدائم بنفس الحدود التي اتفقنا عليها سلفا..

ونختص بالذكر الحكومة الأمريكي التي دعمت ماليا بجزء كبير مشروعنا العائم كل الشركات العالمية التي سارعت للاستثمار في بلادنا ولن ننسى أبدا جهود هذا البلد الصديق في دعم مشروعنا وقضيتنا أمام مجلس الأمن وعلى الساحة الدولية ونخص بالشكر الشركة الأمريكية التي صممت هذا المشروع والذي كما ترون قد فاق كل تصورتنا فهو لا يفرق عن أي جزيرة حقيقية سوى أن أرضيته وجدران مبانيه من المطاط الصلب العالي الجودة المضاد للاحتراق والرصاص.. والذي يختص بمادة معدلة للحرارة.. بارد صيفا خار شتاءا !
وهذا ما سيمكننا من النجاح في ما تقرر في مؤتمرنا الأول والذي كان تحت شعار (وطن لكل المعارضين العرب) من التركيز على فكرة هذه البلاد العائمة لتسويقها سياحيا وإنشاء مدينة تقدم كل ما يبحث عنه زوارنا من ترف راقي وخدمة متميزة.. ونستطيع من خلالها أيضا إثبات كل نظرياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ويكون شعارنا الله الوطن الديمقراطية..
والآن ندعو الجميع إلى النزول من يخوتهم لنتشرف بكونهم أول زوار تطأ أقدامهم جزيرتنا هذه.. تفضلوا لو سمحتم..

مال أحد الحاضرين على صاحبه وهو يقول في خبث
-هل تظن أننا ارتحنا فعلا من مشاكلهم؟ !!
-يموت الزمار وأصابعه تلعب !!
-كل ما أنا خائف منه أن يبدءوا بتصدير الشغب إلى أراضينا بعد أن أصبحوا بعيدا عن أيدينا !!
- لا تخف عند أي محاولة سنفك أسلاك التثبيت لكي يجيدوا العوم بعيدا عنا !!


التسجيل الثاني : شاهد عيان
ابتدأت الحياة المثالية على أرض الأحلام. وكما ترون أصبحت الأفواج السياحية تتقاطر على الجزيرة من كل صوب وحدب. ونسي المعارضون السياسية وأبدعوا في فنون الطبخ والتنشيط السياحي !! فتراهم صباحا على الشاطئ بنظاراتهم السوداء يراقبون الفاتنات في ثوب السباحة ويعلقون على هذا وذاك ومساءا وراء طاولات المطابخ ودخان شواء والنراجيل يحصلون من ذاك وذاك.. تعلموا في زمن قياسي مفهوم الربح والخسارة وأصبحوا بارعين في اصطياد المشاريع الناجحة وابتكار الأفكار المطورة لها.. لكن الموسم السياحي الذهبي على البلاد العائمة لم يتجاوز الستة أشهر أي عليهم مواجهة ركوض لستة أشهر أخرى... لا سياح. لا ربح لا عمل فأصبحوا طوال النهار منتشرين على طاولات المقاهي ومساءا تجدهم يتسامرون في الملاهي يسترجعون ذكريات الماضي وزمن الكفاح والنضال.. لكن في الواقع كان هناك شيئا افتقدوه بناخلهم.. شيئا سموه قبلا الالتزام بالمبدأ.. أصبح بداخلهم حنين لزمن الربح واختفت مشاعرهم القديمة تدريجيا وحلت مكانها مشاعر وأفكار جديدة, حتى أنهم أصبحوا كلما تذكروا الماضي يحضرهم شعور متعب, فالسياسة أصبح لها مفاهيم جديدة, مفاهيم المصلحة والربح..
وابتدأ الموسم الجديد وابتدأت المنافسة وتسابق الكل في البحث عن التميز والربح.. الربح .. الربح !!
وصارت في وقت قياسي جزيرة أصدقنا المعارضين جزيرة لأصحاب الملايين والأثرياء.. صارت مقرا لمافيا منضمة .. دعارة, تجارة سلاح. مخدرات... إرهاب !!


التسجيل الثالث : رئيس المجلس الاستشاري
- نحن نطالب بالتدخل السريع للقوات الدولية لفض هذا النزاع فوق جزيرتنا فلن نقبل بعودة زمن الانقلابات والأنظمة الغير شرعية, إن ما حدث على جزيرتنا هو خروج عن الدستور الذي يسود هذه البلاد والذي يحرم أي نظام يقوم بدون قنوات انتخابية وشرعية.. وبخصوص عرض أصدقائنا الأمريكيين نقول.. نحن نرحب مند الآن بقوات أصدقائنا الذين ساندونا مند البداية..

التسجيل الرابع : قائد القوات الأمريكية
-بسبب الوضع الأمني الغير مستقر بفينيسيا العرب قررت الولايات الأمريكية المتحدة وضع قواتها هنا لأجل غير مسمى حتى يعود الوضع إلى سابق عهده.. ونطمئن أصدقنا المعارضين أننا لن نغادر إلى أن نطمئن من أن الوضع الأمني مستقر تماما..

التسجيل الخامس : شاهد عيان
- ضمنوا موقع إستراتيجي على الخريطة.. باي باي يا بحر !!

تمت

يوميات معارض مبتدئ (2) (حكاية عبد الستار)

من مجموعة حكاية لما قبل النوم
تم إيداعها بدار الثقافة بصنعاء تحت رقم : 319 لسنة 6/8/2005م
تم تقديمها للطبع لدى التوجيه المعنوي بصنعاء 2006
حكاية الاستاذ عبد الستار
- الان نختتم نشرتنا الاخبارية بطرفة كلب فرنسي أجاد الحساب على طريقته!! بقية التفاصيل في هذا التقرير..
-جمع واحد وإثنان؟
- هو هو هو !!!
- طرح ثلاثة على واحد؟
- هو هو !!
التفت إلى إبنه الاصغر وهو يقول بصوت متعب وحانق
- انظر ياحمار!! كلب أجاد الحساب!! وأنت ياحمار ؟!! ياليت ولدت كلب.. كان على الاقل رفع رأسي قدام الناس!لكن ربي أعطاني ثلاثة حمير لا يجيدون سوى الاكل والنوم والتزاحم على باب الحمام.. ربنا يأخدكم قولوا أمين..
هذا حال عبد الستار أستاذ الرياضيات بالسلك الثانوي قبل أن يمتهن فن الحلقة أمام دائرة الشرطة القريبة من نفس الثانوية. رغم أنه كان نابغة في مادة الرياضيات إلا أن الله رزقه بثلاثة صبيان لم يعمل لهم حساب ولا وجد لهم طريقة ليستوعبوا بها دروس الحساب.. فقد كانت تصرفاتهم كلها بدون حساب وأكلهم ونومهم وهمهم بلا حساب!! كان أكبرهم حملا ثقيلا داخل البيت وخارجه. فالشيء الذي لم يكن في حسبته أن يصير أحد أبناءه في سن السادسة عشر مدمن حشيش ثم سكيرا يعمل له ألف حساب وحساب!!
ولبد لكل جيران الاستاذ عبد الستار أن يسهروا مجبرين يوم كل سبت على مسرحيات ابنه بعد أن تلعب الخمر برأسه ويصير عنتر زمانه!! يبدأها عند مذخل الزقاق ويتمها عند مشارف البيت, فيصطف الكل على الشبابيك الضيقة ليتفرجوا على جديد أبن عبد الستار الذي لم يترك شيئا لم يتفلسف فيه ليثبت لعبد الستار ذكائه ورجاحة عقله أمام جمهوره الوفي, يتكلم عن كل شيء.. الماء والكهرباء.. وشؤون الدولة العليا!! فيهرول عبد الستار في كل مرة إلى الشارع لكي يسكته, ثم يجره جرا إلى البيت ليتم مسرحيته تحت ضربات حزامه الذي لم يعد يبكيه بقدر ما يجعله هائجا وأكثر تمردا..
كان كل خوف عبد الستار أن يتعدى أبنه إدمانه إلى الانحراف.. فإن لم يستطع أن يطرح للمجتمع أبنا ذكيا فعليه أن يقدم لهذا الوطن أبنا صالحا.
فالشيء الذي يجهله الكثير عن عبد الستار أنه كان إنسانا ملتزما في كل شيء.. مواطن يحب المشي دائما بجانب الحيطان.. لم يذكر عن عبد الستار أنه تأخر عن مواعيد عمله يوما أو كتب عنه تقريرا يشكك في كفاءته أو شارك في إضراب, وقليلا ما شوهد في دوائر المخزن, وفي الغالب كان لاستخراج أوراق رسمية لكن هذه المر سبق السيف العزل, وجد نفسه أمام المخزن الذي هرول إليه وهو يحاول السيطرة على ابنه.. تسمر في مكانه وهو ينتظر وصول عساكر الدورية الليلية إليه في خطوات سريعة.
- ماذا يجري هنا؟
- لاشيء سيدي.. هذا ابني افرط في الشرب وأنا أحاول جره إلى البيت وربنا ستار حليم..
- أراهن يا رجل أنه لم يكمل السابعة عشر! فكيف يصير حاله حين يكتمل نموه ويصير محسوبا علينا من الرجال؟!
- سيدي عقل الصغار! أعدك أن لا يعيدها مرة أخرى.. أنا رجل تعليم وهذا العاق ابتلائي في الدنيا من رب العالمين.. والله لم أدخر جهدا ولا قصرت في تربيته..
جره الشرطي بعيدا عن الأخريين وهو يقول في خبث :
- وإذا وجدت من يربيه لك!؟!
- كيف؟!! أقصد أكون ممتنا..
- إذا اتركه لنا لليلة واحدة كي يصير كالرجال!!
ظل مترددا أمام عرضه فهو لم يتخيل للحظة أن يبيت أحد أبناءه في زنزانة فتابع الاخر :
- يا أستاذ! ابنك لا بد له من معاملة خاصة ليدرك الفرق بين حضن أب وخضن زنزانه..
- أنت محق.. أنت محق.. خ.. خذوه..
- حسنا ما سنفعله سيكون بعيدا عن دفاتر الدائرة.. لكي يقتنع أصحابي لا بد أن تدفع لهم حساب قهوتهم!!
- فهمت.. فهمت.. كم ثمن قهوتهم؟
- حسب تقديرك أنت!!
- لدي فقط خمسمائة درهم.. هل هذا كاف لخمسة فناجين قهوة؟
- هتها وسأقنع أصحابي بذلك..
اتجه إلى أصحابه وسرعان ما جر الصبي كالنعجة إلى السيارة
-أدخل يا عاق والديه!!! استفاق الصبي من سكرته وهو يستغيث بأبيه الذي تسمر في مكانه بدون حراك
- بّا!!!!! أبّا!!!!!!
- اسكت يا كلب.. لما ربّاه أبوه يربيه المخزن!
جمع عبد الستار دموعه وأوصاله واستدار إلى بيته قبل أن يغير رأيه وهو يقول في انكسار:
- لما ربّاه أبوه يربيه المخزن..
لم تكن ليلة سهلة على عبد الستار و لا على ابنه الذي اجبر على تنظيف دائرة الشرطة بأكملها واستلم كم بصق كفيل أن ينظف الدائرة من جديد وسيل سباب وضرب جعله يتخدر بدون خمر ولا حشيش.. وفي أخر السهرة رمي في زنزانة قذرة, ضيقة.. وفي عتمة زنزانته وجد نفسه يعيد حساباته ويتعلم الحساب.. فقد أدرك أن لكل شيء حساب وأن هذا المصير لا بد له أن يكون ضمن حساباته! إلى هنا قد تكون نهاية سعيدة نوعا ما!! لكن ماحدث بعد ذلك لم يكن في حسبان أي أحد منهما!! فحين تعقد صفقة مع محترف رشوة, هناك لا يوجد حساب للمنطق.. فلديه يصير ألا منطق منطقا في حد ذاته!
بعد ساعتين وجد الصبي لنفسه رفيقا, ووجد العساكر لنفسهم عبد القادر!! أحد كبار تجار الخردة بسوق سيدي مؤمن..
كان الحاج جاهزا بمائتين ألف درهم, وضعها بكل ثقة فوق مكتب الرقيب وهو يقول:
- نصف المبلغ.. لكل واحد منكم عشرون ألف..لمعت عيونهم الجشعة واستمر صمتهم لفترة وهم بصدد البحث عن حل لمشكلة الحاج فاستدرك أحدهم ليوقظ الاخرين من سكرة طمعهم:
- ياحاج ابنك قتل ! وهذه جناية خطيرة..
قاطعه في حدة وهو يقول :
- شأنكم! كل ما يهمني الان هو الخروج بابني من هذه الدائرة الليلة لا غدا.. وإذا صارت الامور على ما يرام لكم عندي نفس المبلغ..
ربت أحدهم على كتفيه وقد لمعت عيناه في خبث :
- احضر الباقي ياحاج وخد أبنك بالسلامة!
- هذا وعد؟!
- كلام رجال..
أسرع الحاج بالخروج وأسرع هو إلى آلته الكاتبه, أوقفه الرقيب وهو يقول :
- هذه جريمة قتل سيضيع معها مستقبل الصبي!
- مستقبله كان ضائعا بهذه أو بأخرى.. الموضوع لا يحتاج منا إلى تفكير.. الان أمامنا مئاتي ألف درهم ولدينا سجين بدون ملف أهدتنا إياه السماء ماذا تختارون!؟!
ولم يترددوا كثيرا.. التقط كل واحد منهم حصته وفتحوا باسم الله الرحمن الرحيم.. ملف جناية قتل مع سبق الاصرار والترصد.. عند الساعة الاولى كان عبد الستار أمام باب الدائرة, تقدم من أحدهم وهو يسأله في تردد خجل:
-صباح الخير سيدي.. هل غادر عساكر الدورية اليلية؟
- مند الساعة السادسة.. خير! هل أستطيع خدمتك في شيء؟
- نعم.. نعم.. لقد أودعتهم ابني البارحة لكي يعملوا معه اللازم على أن استلمه صباحا
-كيف ؟ لم أفهم!
- كيف هذه لها قصة طويلة.. فأنا رجل تعليم وأؤمن أن من لم يربيه اللين تربيه العصا.. فاتفقت مع أولئك العساكر الطيبين البارحة على أن يعيدوا تربيته على طريقتهم حتى يعرف أن الله حق!
- ما اسمه؟
-ثقي الدين الوزاني
- هل أنت متأكد أنك أودعته البارحة لتربيته!؟
- نعم بنفسي.. هل أستطيع استلامه الان؟
- لا.. ليس الان.. بعد عرضه على قاضي التحقيق.. أبنك على ذمة جناية القتل العمد
قاوم عبد الستار ساعتها كل شعور قد يشتته, اقنع نفسه بأن الامر لن يتعدى كونه خطأ غير مقصود أو كما حاول في واقع الامر أن يقنعه بذلك العساكر واعتبرها معادلة منطق.. و مادام المنطق ينفي على ابنه جريمة كهذه فلبد أن هناك خطأ سيتم تصحيحه لدى قاضي التحقيق..
وكانت الحصيلة المنطقية إحالة ملف ثقي الدين الوزاني إلى قاضي الاحداث بتهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد!!
من ساعتها لم يتحرك الاستاذ عبد الستار بربابته من أمام باب الدائرة!! صار كل من دخل أو خرج يتوقف لسماع حكايته.. كل التهديدات, والاهانات, والترهيب.. لم يثنه عن الصمود لأيام وأسابيع وأشهر إلى أن صارت حكايته حديث مدينة الدار البيضاء, إلى أن وصلت حكايته إلى أبعد من حدود الدائرة.. وحدود المدينة.. إلى أن وصلت حكايته إلى من لم يضعه العساكر في حساباتهم!! إلــــى..
-تمت-

خاطب.. خاطف من بني ضبيان

إهداء إلى كل أصدقائي الساكنين في قلبي البعيدين بعد اليمن..


تخزين القات في اليمن ليس فقط جلسة لمضغ القات والسؤال عن أحوال الحاضرين الغائبين.. هي جلسات للتحدث في كل شيء وعن أي شيء.. ومناقشة تلك المواضيع كل حسب خلفيته الثقافية أو العقائدية.. وأحيانا تكون التخزينة جلسة طارئة لتباحث مشكلة عائلية أو عرفية.. وكل نتائج تلك المباحثات تظل رهينة بنوعية القات الذي حظر تلك الجلسة..

بداية حكايتي مع القات كانت داخل مجتمع الجالية الحبشية.. لم يتسنى لي تبادل الحديث إلا إذا تنازل الحاضرون وحولوا نقاشهم إلى اللغة العربية.. وإلا تظل مشاركتي كنوع من المشاهدة لفيلم أجنبي باللغة الامهرية.. لذلك وجدت متعة أخرى بتعاطيه مع أصدقائي اليمنيين من ذمار وخولان..

وجدت لي عائلة يمنية فتحت لي أبوابها كفرد متميز بينها.. كنت استمتع بالحضور كمشرفة جلسة لزوجين من أبناء العمومة وحين يحظر الأقرباء يتم إشراكي كحكم لتلك الجلسات ومستشار للتحكيم لكل مشاكلهم العائلية والمادية.. وكلما نجحت استشاراتي وصدقت توقعاتي كلما صار مجلسنا مقصدا أول لآخرين..

كانت تلك الجلسات تحلو أكثر حين يجتمع الأقرباء من دمار مع أصدقائهم الخولانين الذين كانوا في الماضي زملاء كفاح ضمن حراسة أحد شيوخ بني ضبيان.. حيث كانت أحاديثهم عن القبيلة والعرف وكودها القبلي عالما غنيا بالمعرفة للوجه الذي لا أعرفه عن اليمن.. وهكذا كان عشقي لليمن يزيد أكثر حين أربط سياسته القبلية بتاريخه الذي اجتهدت في كشف أسراره.. والتي للأسف قدمت أثاراها للنسيان..

وهكذا يوما عن يوم صرت فتاة متقبيلة بامتياز.. فقد تمكنت من استيعاب وتشرب ذلك الكود وصار سلوكي وحديثي يحمل بصماته بوضوح.
مع مرور الوقت صرت من خبراء القات.. وأصبحت لدي قدرة على معرفة جودته من شم رائحته فقط.. وتوقف ولعي عند قات رطب الاعواد او كما يسميه أصدقائي (القات أبو ربل !!)

لم يكن القات أبو ربل مجرد قات بالنسبة إلى.. وإنما صار مصدر للإلهام والثرثرة الجادة !! أو بمعنى أخر صرت أكثر اجتماعية وأكثر قدرة على جعل الآخرين يتحدثون عن كل ما أريد معرفته.. والاهم من هذا كله.. طورت خاصية الإنصات للآخرين وبعدها التضامن معهم !!
ومن أطرف قصص التضامن تلك.. قصة التخطيط للخطف مع بني ضبيان !!

-2-
معرفتي ببني ضبيان كانت سطحية.. لكن بالصدفة وجدت نفسي حاضرة في إحدى جلسات أصدقائي في أحد الليالي الرمضانية بصحبة شيخ من بني ضبيان..
الشيخ جاء ليبارك العشر الأواخر لرجال الكفاح السابقين ورجال الاحتياط الحاليين.. كانت نظراته التائهة في اتجاهي تخبرني بأنه على علم مسبق بحضوري.. وحضوره هو ما كان إلا فضولا للتعرف على من تنازعه سلطته المعنوية على رجاله..

الشيخ لم يقدم نفسه كرجل عصابات كما كنت أسخر منه دائما حين يبدئ أحدهم بسرد مغامراته مع شيخيه, فهو حسب أقواله يعمل محامي شريعة.. يدافع عن الضعفاء ممن سلبت منهم أراضيهم بالبسط.. كيف؟ بأن يشتري تلك الأراضي من ملاكها الأصليين (أي الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله, وطبعا بثمن بخس!!) ويبسط من جديد على الظالم (الباسط الأول على الأرض) !!
حيث يبدئ مشوار العراك والرصاص والمحاكم للاسترداد تلك الأرض بالحلال !!
منطق مقبول مع القات !! لكنه يختفي حين افرد سجادة الصلاة للتهجد والاستعداد لصيام يوم جديد.. أجد الشيخ يحضر في صلاتي بكل منطقه.. فلأجد سوى الدعاء له بالهداية..
فذلك المسكين لم يعرف في حياته سوى ذلك المنطق وكل جاهل له عذره !!لكن حين أستوعبت أن الشيخ الضبياني هو رجل دولة أسسها في حدود قريته.. تساءلت إن لم يكن المنطق يخذلني في مسألته..
ومسحوبة لمعرفة المزيد عنه.. كنت أصغي باهتمام لكل صغيرة وكبيرة يقولها علني أستطيع معرفة تركيبته الشخصية وحقيقة ما يفكر فيه لا ما يقوله..

أغلب قصصه كانت عن أسفاره العديدة منها الصين بدون مترجم !!

-إذا ذهبت إلى الصين فاحذريهم.. الصينيون محترفون للنصب.. لكن كله ولا النصب حق المصريين !! هل ذهبت يوما إلى مصر؟

-نعم مرتين و لم أحب إقامتي القصيرة فيها.. علي يمينك وشمالك مصحوب بالنصابين.. لكني كنت أذكى منك في الصين.. بمجرد وصولي إلى القاهرة.. أخذت أتحدث باللهجة المصرية.. وبمجرد أن يظهر جواز سفري ويعلموا جنسيتي أجد أولاد الحلال بجانبي.. الذي يشتي زوجني أخوه.. والذي يشتي يعرفني على معالم القاهرة.. يدهشك إصرارهم العجيب مهما حاولت الرفض !!

-وماذا فعلتي في الأخير؟

-كنت استلقط لي أي أحد من طلاب الأزهر اليمنيين من الطائرة وأطلب منه ألا يفارقني والطاكسي على حسابي.. وكل من يسأل يقول إني خالته..

-أنا عندما نزلت مطار القاهرة أوقفوني ساعتين وبعدها ذهبوا بي إلى مديرية الامن حقهم.. حققوا معي ست ساعات..

-لاتقل لي ياشيخ أنك فاتح مشاريع للمشارعة حق أراضي حتى في مصر !!

-هما كانوا يسألونني عن زيارة سابقة.. زيارة عصيد من أولها.. كنت نزلت يومها للقاهرة بالبدلة والكرفته.. والسائق مع أناقتي ظنني شيخ من حق الخليج.. عرض علي شقة مفروشة بمئتي جنيه.. قلت خدنا نشوف هذه الشقة حقك.. وجدت نفسي بعدها في شقته.. قلت له فين هذه الشقة حقك.. مكني موجودة لا تقلق ياشيخ أنا حبيت أخذمك وعاملك مفاجأة استنى راح تجي حالا.. بعد ساعة جاب لي أخت مرته وقال يشتي يزوجني مقاولة حق شهر !!

-ياحظك ياشيخ.. شقة وعروسة.. أكيد كانت صفقة موفقة !!

-قضيت ثلات ساعات اقنع فيه أني مستعجل وعندي موعد مهم.. في الاخر وصلني عند صاحبنا المصري في الجيزة,, عنده فيلا في الجيزة.. فيلا كبيرة.. قولي مزرعة.. بعد الغداء أخدني يفرجني على سلاح في جبل..

-عندهم حق يوقفوك ياشيخ.. أكيد صاحبك هذا واحد من أصحاب الجماعات الارهابية .. وإيش رايح تشتري سلاح في جبل وفي مصر !!

-ياستي السلاح عندنا في اليمن يباع في الاسواق من المسدس للدبابة.. وأنا قلتها للضابط حق المديرية.. أنا قبلت عزومة صاحبنا لا أقل و لا أكثر من ذلك.. يروحوا يحققوا معه في الجيزة إذا هم يعرفون كل شيء عنه..

حاول تغير الموضوع بالسؤال عن أحوال صاحب المنزل..
-كيف حالك أنت يا هاشم, مبسوط في العمل؟

-والله يا شيخ نحمد الله.. لو تركونا فقط الحبوش في حالنا راح نكون أحسن..

توسع النقاش عن مافيا الأحباش التي سيطرت على كل الوظائف لدى الجالية الأجنبية وأكثر من ذلك.. تفانيهم في اضطهاد العمالة اليمنية واستيلائهم على وظائفهم لصالح أحباش آخرين.. وكيف يعاني صاحبنا من الاضطهاد والإيذاء النفسي يوميا إما بتعليق أو باختلاق لمشكلة أو دق مسامير له لدى عمه.. و انتهت الجلسة بتضامننا مع صديقنا الذماري.. وصار موضوعه حديث الغد الذي تصادف مع دق مسمار جديد واستغلال جهله باللغة الانجليزية..

كان الذماري في حالة نفسية متدهورة وظل طوال الليل يتحدث عن مشكلته ونحن ننصحه بالدعاء عليه في تلك الليالي المباركة.. ونقطع معها أحاديثنا بالتسبيح ثارة وبالدعاء ثارة.. وكان للدعاء لصاحبنا بالنصرة نصيب أيضا في صلاة الثلث الأخير..

في اليوم التالي تناولنا الإفطار مجتمعين لدى صاحبنا, وفرقنا ككل يوم ما استطعنا على الصائمين من دون عوائل في الحي وبعد صلاة العشاء انتظرنا عودة صاحبنا من المقوات.. مصحوبين بتلك النشوة الروحية بعد يوم اجتهدنا فيه كي نرضي كل من صادفناه..

-اليوم جبت قات خولاني راح تدعي لي بعده..
شممت رائحته وقلت-رائحته قوية,

- أظنه قاتا جيد.. أعجبني لونه.. هات تنشوف قات بني خولان راح تكون تخزينته كيف !!

ابتدئ الحديث بتلقائية عن بني خولان وأخذنا بالسخرية من الخولانين الحاضرين كونهم اصحاب مشاكل على حد قول أحد الدماريين فبنو خولان من وجهة نظره.. المضاربة في دمهم.. وإذا لم يجدوا لهم خصوما يكتفون بمحاربة بعضهم البعض !!
أخد الحديث يتوسع مع التخزينة عن حوادث الخطف التي اشتهرت بها قبائل خولان وقدرتهم الفطرية على إدارة المعارك.. باستغلالهم لإستراتجية منطقتهم وكيف كانوا يقطعون الطريق على الشاحنات المحملة بالمئونة لقرى أعدائهم كنوع من الحصار..
وهكذا وجدت نفسي أسخر من قات بني خولان وأقول.

-مع هكذا تخزينة أكيد راح ننتهي بخطف عمك وأعوانه الحبشيين !!

أجابني أحد الخولانين
-الخطف فن وتخطيط وعلم لدى بني خولان !!

-إيش رأيك إني راح أعملك خطة .. هه حضرت ببركات قاتكم.. أستلم هذه الخطة !! اسمع هذه.. سنأتي بأناس موثوق بهم.. يترصدوا خط سير عمه.. وبعدين يصطادوه مع فترة الافطار فهو دائما يرجع بعد الافطار بقليل.. ويحجبوا الرؤية عن السواق وعمه.. ثم يقودانهما إلى مكان ويجردانهما من ملابسهما.. وبعدها يأتوا بلوحة مكتوب عليها (هذا جزاء من يتعالى على اليمنيين ويسخر منهم) ثم يغطوا ما بين الصرة والركبة.. مع تسجيل الموضوع على تليفون بشريحة للذاكرة.. وبعدها يرجعوا بالرجل إلى بيته.. أما السيارة فهي حلال عليهم ولو فصلوها قطع غيار يكونوا قد أخفوا كل معالم العملية..بعدين يجيبوا التسجيل ويعملوا منه نسخة أولى لمدير الشركة.. والثانية يحطوها على يوتوب.. هكذا فضيحة كفيلة ترجعه إلى بلده بالإرسالية السريعة..

-والسواق !!

-تكفيه الخبطة تعلمه الادب !!

-طيب من فين تجيبي الجماعة !!

في تلك اللحظة رن هاتف الذماري ليبتسم في خبث قائلا
-هذا الشيخ !!

بدون تردد قلت له وأنا أرمي بالقات للخولاني
-خزن .. الان راح نشوف رأي الخبير أبن جيرانكم والجماعة أكيد عرفتها !!

-3-
-هه ما رأيك يا شيخ في خطتي؟

ابتسم وهو يقول
-خطة جيدة.. تروحنا كلنا للى السجن انشاء الله!!

-خطتي فيها ثغرة؟

-ما فيها ثغرة.. فقط الذي راح تخطفوه ما يعدل كفة العملية.. والاحوال الذاخلية هذه الايام لاتشجع على أي تحرك غير محسوب.. لكن خليني أفكر فيها.. وأرد عليك غذوة..

تحولت تلك المزحة إلى مشروع جدي طال فيه الحديث لليوم التالي لدى أصدقائي باستثنائي كعقل مدبر لتلك الخطة.. فقد استيقظت في اليوم التالي دون مشاعر التحمس التي نمت بها..

وجاء الشيخ بعد صلاة العشاء والذي حضره بالصدفة قات بني خولان.. سألني وكأنه يعلم مسبقا الجواب..
-مازلت على الموضوع حق البارحة !!
وجدت نفسي أجيب بطريقته وأقول ما لا أفكر فيه !!

-أعجبتني الفكرة يا شيخنا..و أريد أن أختبر كفاءتي في التخطيط !!

-أنا أشهد لك أنك مخططة عظيمة !! وهذه ميزة إضافية لما وجدته فيك.. ذكاء وثقافة وتخطيط وجمال خسارة أنت في السجن.. إيش رأيك تتزوجني وتخططي لحاجات ثانية؟

أخدت حديثه على سبيل المزاح وأنا أقول
-ما خططت بعد لهذا يا شيخ !!

-أنا جاد في طلبي..

ساد الصمت المجلس بين حذر ومستغرب ومتفاجأ.. فتابع الشيخ
-هذا ما قررته البارحة..

التزمت الصمت وكأنني لم أسمع ما قاله.. فتابع
-أنت تتساءلين ما الذي شجعني على هذا القرار؟

تجاهلت غروره في السؤال و أجبت مشفقة عليه مما أفكر فيه بمراوغة..

-ليس من الذكاء أن تسأل امرأة خاطبها عن سبب طلبه.. لأنه لن يقول أبدا السبب الحقيقي لقراره !!

-بصراحة الفكرة حضرتني من أول يوم..

-هذا يعني انك سمعت عن أخباري قبلا.. وإلا لما فكرت في الموضوع بتلك السرعة؟

-كنت متشوقا لكي أتعرف على من صارت قدوة لرجالي حتى صاروا لا يقطعوا بكبيرة ولا صغيرة دون الرجوع إليها..

ظللت صامتة لوقت وأنا أرتب مزايا الشيخ ومساوئه.. فإذا وافقت يجب أن أبرمج حياتي على كوني زوجة لرجل يرى نفسه زعيما في قومه.. ولا أراه إلا كقاطع طريق.. لكن يبقى هذا الشيخ صنعة ظروفه.. ربما أستطيع أن أجعل منه رجلا آخر.. أكون مغرورة إذا صدقت أني قادرة على ذلك !! فرجل بعناده ليس بالسهولة تغير تفكيره واستراتجياته المستقبلية.. فقد تعود أن يصل برجاله وسلاحه إلى أهدافه بسرعة دون تعب أو انتظار..فإن غيرت تفكير رجاله وأفكارهم المغلوطة عن الشرف القبلي اليمني وجعلتهم يستوعبون أين تتلاقى تلك القيم مع الاسلام كدين يدعوا للأخلاق الحميدة.. والاعراف القبلية التي جاء كدين ليكملها.. فلن أكون قادرة على أقناع مرتد عن تلك الاعراف كشيخ بني ضبيان باعتباره واحدا من شيوخ كثر حرفوا وشوهوا المعاني العميقة للانتماء القبلي ليتماشى مع مصالحهم المخجلة في رحلتهم للبحث عن سلطة المال والتبرئ من سلطة الشرف..لكن مع كل ما فكرت فيه وجدت نفسي أقول للحفاظ على كبريائه أمام رجاله

-الخطف يمكن التحدث عنه في جلسة قات لكن الزواج قرار يسبقه استشارة ثم استخاره.. لهذا.. موافقة إلى حين..

-تمت-

يوميات معارض مبتدئ (3) حكاية مجيب


من المجموعة القصصية (حكاية لما قبل النوم)
كاتب النص :آمال عكيفي

رقم الايداع :319 لسنة 6-7-2005م بدار الثقافة
قدمت للنشر لدى مؤسسة التوجيه المعنوي بصنعاء يوليو 2006
يوميات معارض مبتدئ (3) حكاية مجيب

مجيب لم يكن يتجاوز 19 من عمره لكن طموحه ومواهب الخباثة العالية التي كان يمتاز بها جعلته يتسلق بسرعة رؤوس كل من صادفهم في حياته, من رفاق الصف, ورفاق العمل إلى كل من مثل دور المسكين أمامهم, المظلوم في هذه الحياة بفقدانه الأم والمقهور من جبروت الأب !وبكل قصصه الكثيرة المختلقة التي استطاع بها أن يفتح محافظ المحسنين وأبواب مجالسهم.. ومن لا يعرف مجيب في الانتخابات !
فقد تجده في الوقت ذاته كذاب زفة, ومخبر, نصاب ومتآمر مزدوج فلا يعلم أحد إن كان مع المعارضة أم مع الحزب الحاكم م مع أمن الاستخبارات !!
واستطاع هذا الفتى أن يكون في وقت قياسي علاقات لا بأس بها مع بعض التجار والسياسيين, والصحفيين والامن وحتى الجيش.. فمجيب كان ذلدولا من الطراز الرفيع وكل من يمكن أن تطلبه منه يستطيع فعله !
من البلطجة تم تجارة الممنوعات إلى التجسس على من تريد وكما تريد !!
في يوم كلف صاحبنا بمهمة خاصة نوعا ما.. فما كان منه إلا أن انتظر في المكان الذي حدده المتصل, ليسلم ويستلم لكنه فوجئ بزبونه الجديد يدعوه إلى مرافقته :
-الاستاذ عايز يشوفك.. اركب..

وجد نفسه أمام رجل بدا من هيئته وتعاليه أنه من اصحاب الحل والربط في البلد !! أشار إليه بالجلوس وهو يقول :
-اجلس يا ابني.. بيحكوا عنك أنك ولد جرئ وذكي وماعنخاف عليك..
-خدامك ورقبتي فداك يا أستاذ..
-كل ليشتغلوا عندي لازم رقبتهم تكون فدايا وفدى هذا الوطن يا مجيب.. ولو حصل غير, ساعتها الذبان الازرق ما يعرف طريقك.. هذا الكلام حطه حلقه في أذنك وما تنساه طول عمرك ياأبني..
-من غير ما توصي حريص ياأستاذ أنا هذه رقبتي جرها فين تشتي..

هكذا أصبح مجيب ذلدولا خصوصي !! وتفنن في التذلدل لسيده الجديد حتى يكون راضيا عنه.. وأصبح في أسابيع محط ثقة السيد المحترم. وكان الفتى قد خبر عادات سيده و أدرك جيدا أنه بمجرد أن يتعدى نصف القارورة يصبح كالطفل في كل شيء. والسعيد من يحقق رغباته مهما كانت واضعتها, من التحرش بالنساء إلى التهديد بالقتل بهاتف السيد الذي يحمل خدمة رقم خاص إلخ, إلخ.. وكل هذا كان يجيده مجيب بدون اعتراض لدرجة أن سيده كان يختنق من شدة الضحك أحيانا ! ويكتفي بالقول وهو يحاول التقاط أنفاسه المتعبة من الضحك والخمر !!

-أنت ولد جن يامجيب.. هؤلاء كلاب.. يريدون تدمير هذا الوطن ! ونحن كلنا يجب تكون رقابنا فدى هذا الوطن
فيجيبه ككل مرة في تذلدل :
-وأنا رقبتي فداك وفدى الوطن يا أستاذ.. تأمرني بشيء ثاني يا أستاذ, أنا هذه رقبتي ! رقبتي فداك وفدى هذا الوطن جرها فين تشتي !

لكن أيام العسل لم تدم طويلا ! في ليلة وجد سيده يدعوه إلى مجلسه وبصحبته رجلين لم يراها من قبل, استقبله الثلاثة بنظرات ملئها الاحتقار والشماتة, تشتت معها أكثر حين تساءل أحد الرجلين في استغراب قريب إلى التهكم :

-هذا هو الكلب عيستخدم تليفونك !?!
-إيه هذا هو الكلب ابن الكلب.. ولو ماطلبتموه أنا كنت عذبحه ورميه للكلاب..

هكذا وبقدرة قادر وجد نفسه مسحوبا كالكبش إلى السيارة كان يتمنى أن يطول الوقت ولا تتوقف السيارة وهو يحاول كسب الوقت ليجمع تفكيره من جديد, كان يحاول أن يستوعب ما يحدث له أو على الاقل يخمن ما سيحدث عندما تتوقف السيارة, كان كلما انعطف السائق إلى مكان خال يوشك قلبه أن يخرج من مكانه.. لم يستطع إيقاف الرعشة التي سيطرت عليه لدرجة أنه كان غير قادر على المشي حين أمره أحدهم بالنزول. وكأن ذاكرته أصبتها ثقوب, فلم يعي كيف اجتازت السيارة البوابة ولا حتى متى توقفت في الفناء..
استسلم لكل ما يحدث له أخيرا فإما السجن أو الضرب.. ولو أنه لم يستطع بعد أن يستوعب ما الذي فعله أو بمعنى أصح علي أي شيء قدم ككبش فداء. فليس له الان إلا الصبر أمام سيد قادر على نسفه لو ورطه بأي شيء, فالعقد شريعة المتعاقدين وهو تعاقد معه على رقبته, فلا ضير أن تطير رقبته فهي لا تساوي شيء أمام رقبة السيد الذي أوشكت كل الرقاب أن تصبح ملك يمينه وفداه !!

أتاه صوت هادئ خيل إليه أنه مألوف جدا وهو يقول :
-اجلس يا ابني ما تعبت من الوقوف !?

تجمدت أطرافه وهو يجد نفسه وجها لوجه.. أمام رجل يدرك جيدا أن خباثته وكل فلسفات الشارع لن تنقده منه إذا لم يقتنع ببراءته, أخرجه من جموده وهو يسأله في خبث :
-تشتي تدقني يامجيب ? أعرف الاول تشتي تدقني ليش !!?
-أنا رقبتي فداك وفدى هذا الوطن سيدي..
-أنا لرقبتي أعطيها لك تدقها لو لقيت إن دقها لمصلحة هذا الوطن.. يا ابني أنا مسؤول عنك وعن كل هذا الوطن.. سأحاسب امام الله عنك وعنه.. وأمثالك جزء منه لا يمكن إقصاءه لكن يمكن إعادة تربيته وتأهيله..
أنا ما عسألك لما هددتني بالقتل.. لكن عسألك بعد عشرين سنة عتعمل في البلد هذه إيش؟ !! لو كنت ما أكملت عشرين سنة وما تركت مصيبة ما عملتها.. أكيد لو تركتك, بعد عشرين سنة ثانية عندورك عامل تنظيم يغرق البلد كلها دم وأنا ساعتها من سيحاسب أمام الله والوطن لأنني تركتك تكبر على عيني !!
-ياسيدي الشيطان شاطر وأنا ما كنت أعرف والله والله أنه رقمك.. يا سيدي أنا رقبتي هذه فداك.. وفدى هذا الوطن..
-أنا ولا يري واحد يا ابني.. عملين قانون لمن في هذه البلد؟ !! لك ولغيرك ! يحميك ويربيك ! وأنا كمواطن تروعني لما من غير حق؟ !! رقبتك هذه لرخيصة عندك هي غالية عندنا.. رقبتك ما تتبرع بها إلا لخالقك ولوطنك ولشرفك.. ماهي حلال لغيرهم.. فهمت يا ابني ما الذي أريد قوله بالضبط !!
-فهمت .. فهمت..
-مقتنع إنك محتاج تربية !!
-رقبتي هذه جرها فين تشتي ياسيدي..
-يبقى كلامي ما وصلك على النحو المناسب.. أنا عرسلك مكان تتعلم فيه شوية وطنية وهذا يا ابني ليس بعقاب.. هذا فقط الذي قدرت عليه حتى لا أحاسب عليك في يوم.. (أن يخطئ السلطان في التبرئة خير من أن يخطئ في العقاب).. أشتيك تقتنع كليا أن رقبتك ورقبة غيرك ليست للإيجار, ويجب أن تعرف بعد ذلك لمن تتبرع برقبتك ومتى !!!

بعد ساعات وجد مجيب نفسه في معتقل سياسي, ظل صامتا لزمن طويل وهو يجمع بذاخله غضبه وألمه كلما تذكر أنه كان ذلذولا وانتهى به الامر ذلذولا. فأين هو من كل من حوله.. كل واحد منهم سعيد بسجنه وبما هو عليه فالسجن وسام وطنية بالنسبة إليهم, كل واحد منهم يدرك أن له باعا في هذا الوطن, حتى السجن هو بالنسبة لبعضهم بناية فقط فوق أرضه. أخرجه أحدهم من صمته وهو يقول :

-ألن تقول لنا إلى الآن أنت تبع من؟ !!

أستفزه السؤال وكأن شيئا استيقظ بداخله فجأة فأجابه في حدة

-تبع الوطن !!!

ارتفعت ضحكاتهم كاسرة صمت السجن المغلق فأشار إليهم أحدهم بالسكوت وهو يتابع :
-يا ابني كلنا تبع الوطن ! أنت تبع أي تيار أي حزب؟ !!

-الله المستعان ياجماعة !! أنا طول عمري يغششوني أي حاجة يلزمها حفظ أو إستيعاب !! حتى هنا غششوني الوطنية قبل ما أدخل عندكم, لكن أنتم لستم بحاجة مثلي لتغشيش. ما شاء الله عليكم مثقفين وتفهموا بسرعة !!
أنتم هنا يا جماعة ببساطة لكي تستوعبوا جملة واحدة سهلة الحفظ .. أحنا تبع الوطن مش تبع أحد.. إحنا تبع الوطن مش تبع أحد.. إحنا تبع الوطن مش تبع أحد !!!!!!!!!!!!!!!!!!! تبع الوطاااااااااااااااااااااااااااااااااااان مش تبع أحد.. مش تبع أحد..

-تمت-


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..