بلزاك في مرآة المثقفين الفرنسين



من المعلوم أن فرنسا احتفلت في نهاية القرن الماضي عام (1999) بذكرى مرور مائتي سنة على ولادة كاتبها الكبير هونوري دو بلزاك (1799 ـ 1850). وأنا الآن على طريقتي الخاصة أحتفل بمرور مائتين وعشر سنوات على ولادة أكبر روائي فرنسي.
ولكن بلزاك يتم الاحتفال به كل يوم من خلال قراءة أعماله الخالدة. ففي المترو والباصات كثيرا ما تجد الفرنسيين منهمكين في قراءة إحدى رواياته التي يبلى الزمن ولا تبلى. وهذا أكبر تمجيد له. هذا يعني أنه لا يزال حيا وسيبقى لأن الأدب العظيم لا يموت. ولكن الشيء الذي أدهشني أكثر من كل ما عداه هو أن كلود ليفي شتراوس الذي تجاوز المائة عام قبل بضعة أشهر، والذي توفي 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال إنه منخرط في قراءة روايات بلزاك للمرة الأربعين! تصوروا أربعين مرة! من يصدق ذلك؟ إنه لا يشبع منها.. ومعه الحق..
والواقع أن الصحافة الفرنسية تهتم به دوريا، وكذلك المفكرون والأدباء وحتى رجال السياسة. فكيف يراه هؤلاء بعد مرور أكثر من مائتي سنة على ولادته ومائة وخمسين سنة على موته؟ ذلك أن بلزاك لم يعش طويلا على عكس ما يوهمنا إنتاجه الضخم ورواياته التي تجاوزت الثمانين! فقد مات في منتصف العمر: أي في الخمسين. فهل كان يكتب ثلاث أو أربع روايات في السنة؟ لقد كان وحش كتابة. هذا أقل ما يقال. كان ينام من الساعة السادسة بعد الظهر إلى الساعة الثانية عشر ليلا. عندئذ يستيقظ ويبتدئ يوم بلزاك الحقيقي على عكس بقية البشر. كان يلبس البيجاما ويحضر طنجرة القهوة ويبتدئ بتسويد الورق الأبيض ليس فقط حتى الفجر، وإنما حتى ظهر اليوم التالي. اثنتا عشرة ساعة عمل متواصلة. عشرات الفناجين من القهوة تحتسى كل يوم، وعشرات الشخصيات والأبطال والعقد الروائية والمغامرات تنعقد خيوطها وتنحل على الورق كل يوم. بل ويقال إنه كان يغلّق عليه النوافذ والأبواب لكيلا يسمع ضجة الشارع فيصبح منقطعا كليا عن العالم الخارجي لكي يتفرغ لعالمه الداخلي الجواني. عندئذ كان بلزاك يدخل في عالم آخر لا نعرفه نحن الناس العاديين: عالم من صنع الخيال. عندئذ كانت تبتدئ حياة أخرى غير التي نعرفها: حياة الخلاقين الكبار. عندئذ كان يرخي لعبقريته العنان.. وفي الصباح ـ أو في وقت الظهيرة بالأحرى عندما يكون قد تعب وسكر دفاتره ـ كان يجد صعوبة للوهلة الأولى في العودة إلى العالم الطبيعي، عالم الحياة. فليس من السهل أن تغطس في عالم الخيال المجنح طيلة ساعات وساعات ثم تعود إلى العالم الحقيقي مرة أخرى. ليس من السهل أن تنتقل من عالم الخيال إلى عالم الواقع بمثل هذه البساطة. وفي بعض الحالات كانت تختلط عليه الأمور فلا يعود يعرف كيف يميز بين العالم الروائي والعالم الحقيقي. وقد حصل ذلك لحظة احتضاره عندما راح يستنجد بالطبيب «بيانشون» لكي ينقذه: وهو طبيب غير موجود على أرض الواقع وإنما يمثل إحدى الشخصيات التي اخترعها في الكوميديا البشرية!
كيف ينظر إليه الفرنسيون الآن؟ وما هو تقييمهم له؟
يرى «جان دورميسون» عضو الأكاديمية الفرنسية الشهير أن الرواية البلزاكية هي رواية واقعية. فما يرسمه بلزاك وما يصوره، هو العالم الحقيقي الواقعي. وبلزاك كان مراقبا من الطراز الأول. كان يسأل أصدقاءه عن المعلومات التفصيلية الأكثر دقة لكي يستخدمها في رواياته. كان يسأل مثلا عن أسماء الشوارع والأزقة والساحات العامة، إلخ... ولكن على الرغم من ذلك فلا يمكن أن نختزل بلزاك إلى مجرد كاتب واقعي موضوعي جاف. بلزاك شاعر قبل كل شيء. إنه رؤيوي. كان خياله متوثبا، مشتعلا، عملاقا. كان ساخنا وباردا في ذات الوقت، أو شاعرا وناثرا في نفس الرواية إن لم يكن في نفس الصفحة! هناك تكمن عظمة بلزاك، وكل فنان كبير من عياره الثقيل: كديستيوفسكي ومارسيل بروست على سبيل المثال لا الحصر. إن كتب تاريخ الأدب الفرنسي تموضع بلزاك عادة في نقطة التمفصل الكائنة ما بين الرومانطيقية والواقعية. ولكن بلزاك هو أولا وقبل كل شيء شاعر ضخم. إنه شاعر العالم الواقعي. إنه خلاق يحلم بإبداعه ويخترعه اختراعا قبل أن يسطره على الورق. في رواياته شحنات شعرية هائلة. ولكن، أليس كل روائي كبير هو إنسان واقعي بارد وشاعر متأجج في ذات الوقت؟ لقد انتقل بلزاك بأدبنا من الرومانطيقية إلى الواقعية. وبعده بنصف قرن ظهر روائي كبير آخر هو إميل زولا، وانتقل بالأدب الفرنسي نقلة إضافية باتجاه المزيد من الواقعية: لقد انتقل به إلى المدرسة الطبيعية. أصبحت الرواية على يديه تشريحا للمجتمع والحياة، كما يفعل عالم الطبيعيات الفيزيولوجية. وقد لامه البعض على ذلك لأنه بالغ في هذا الاتجاه وحول الرواية إلى ما يشبه الدراسة العلمية السوسيولوجية.
وأما الكاتب فيلسيان مارسو عضو الأكاديمية الفرنسية أيضا، فيبتدئ مقالته بعبارة بلزاك الشهيرة: «إني أكتب على ضوء مشعلين خالدين: الله والنظام الملكي». وبسبب هذه العبارة صُنِّف بلزاك في خانة المحافظين الرجعيين الذين يحنّون إلى الماضي، إلى العهد القديم الذي ألغته الثورة الفرنسية. ولكن بما أنه كان مراقبا فذا وعميقا للواقع فإنه استطاع أن يخون قناعاته الآيديولوجية ويكشف عن التناقضات الجدلية الخصبة التي تعتمل في أحشاء الواقع الاجتماعي. وهكذا كان بلزاك تقدميا من الناحية الروائية، ومحافظا من الناحية السياسية. أو قل كان «تقدميا رغما عنه»! بحسب التعبير الرائع لجورج لوكاتش. أما فيكتور هيغو، وكان معاصرا له، فقد رأى فيه كاتبا ثوريا.
كان بلزاك مبدعا من الطراز الأول. صحيح أنه كان يستخدم ملاحظاته الواقعية لكتابة رواياته. ولكنه كان يصهر هذه الملاحظات والعناصر الأولية المستمدة من الواقع في بوتقة ما ويخلق منها شيئا آخر، شيئا جديدا كليا. هنا تكمن عبقرية بلزاك التي لم يستطع أي روائي فرنسي أن يتجاوزها حتى الآن. كان بلزاك يغطس في كل واحدة من رواياته حتى ليكاد يختفي أو يغرق. ولو لم يكن عبقريا لما استطاع العودة من غوصته. كتب مرة إلى إحدى صديقاته يقول معتذرا: «أرجوك ألا تزعلي مني لأني لا أستطيع أن أراك. فأنا غاطس حتى الأعماق في عمل ما. إني أشتغل عشرين ساعة في اليوم. وإذا كنت لم تسمعي بخبر موتي حتى الآن فينبغي أن تندهشي..». هذا هو بلزاك: إنه يلتهم الحياة والفن التهاما. إنه لا يرتوي ولا يشبع. ولكن هناك ميزة أخرى لبلزاك، ميزة تطبع عبقريته بطابعها الخاص: إنها الحرية. بعضهم يدعونها بالفوضوية ولكنهم مخطئون: إنها الحرية. أقصد حرية الإبداع الذي يذهب في كل الاتجاهات ويسلك جميع الدروب..
انتهى كلام فيلسيان مارسو.
ولكن هل هناك إبداع دون حرية؟ ولماذا ماتت العبقرية العربية إذن وسبقنا الآخرون بسنوات ضوئية؟ لاحظ كيف أننا مقيدون بالأصفاد التراثية والفتاوى الفقهية القديمة التي عفى عليها الزمن. لاحظ كيف أننا مشغولون بالقشور المحنطة والتوافه بعد أن نسينا جوهر الدين وعمقه الروحي العظيم..
أما جان ماري روار، رئيس الملحق الثقافي لجريدة «الفيغارو» وعضو الأكاديمية الفرنسية، فيكتب قائلا: كان بلزاك مهووسا بشخصية نابليون. وكان يريد أن يحقق في مجال الأدب ما حققه نابليون في مجال الحروب والفتوحات. كان يريد أن يصبح إمبراطور الرواية مثلما أن نابليون هو إمبراطور السياسة. وقد أصبح. ولكنه، كنابليون، كان مزدوج الشخصية. فقد كان نابليون ثوريا ويحب النظام في آن معا. كان محافظا وتقدميا. وهكذا كان بلزاك: فهو محافظ سياسيا وتقدمي روائيا. ولكن الشيء الذي أحبه بلزاك فيما وراء كل شيء هو الحرية. أقصد الحرية العليا، أو الحرية الأرستقراطية التي يتمتع بها الفنان.
أما موريس درّوون عميد الأكاديمية الفرنسية فيقول: هناك روائيون من عدة أصناف أو أشكال. ولكن جميعهم يشتركون في الخصلة التالية: هي أنهم يحكون قصة ما. والبعض منهم يكتفي بذلك. أما الروائيون الكبار من أمثال بلزاك فلا يكتفون برواية قصة ما لنا، وإنما ينخرطون في مغامرة ضخمة أخطر وأكبر بكثير ألا وهي: إبداع عالم بأسره أو خلقه من العدم تقريبا.
مأساة بلزاك هي أنه عندما وصل إلى كل شيء جاءه ملك الموت. ومعلوم أن سيدنا عزرائيل لا يزورك للاطمئنان على صحتك أو لشرب فنجان قهوة مع حضرتك وإنما لقبض روحك وقرف رقبتك بكل بساطة! كان بلزاك قد حقق كل أحلامه: فبعد عشرين سنة من الركض وراء حبيبته الأرستقراطية الروسية «مدام هانسكا» استطاع الوصول إليها. بل واستطاع أن يسدد كل ديونه ويبني بيتا بورجوازيا في باريس لاستقبال العروس الغالية. ولكن في تلك اللحظة بالذات ضرب القدر ضربته فلم يتركه يهنأ بآماله. ألم يقل المثل العربي: توقع زوالا إذا قيل تم؟
سألها وهو يحتضر: ما الذي أحببته فيّ: الرجل أم الكاتب؟ فترددت لحظة قبل أن تجيب: الكاتب. فقال لها: قبحك الله لقد قتلتني! ويقال إنها كانت تغازل أحد الشباب «الحلوين» في الغرفة المجاورة وهو يحتضر..
ولكن لا ينبغي أن نعطيها دروسا في الأخلاق أكثر مما يجب. فنحن أيضا لسنا ملائكة! وقديما قال العرب: سميت القلوب قلوبا لأنها تتقلب..

هاشم صالح

جريدة الشرق الاوسط


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..