حكاية لما قبل النوم

في العهد العباسي عرف المعتزلة كفرقة قوية في علم الكلام وأيضا كمشاغبين سياسيين, لكن رغم ذلك لم يحاصرهم أغلب الخلفاء العباسيين بل على العكس من ذلك.. أخرجوا معظمهم من السجون وصنعوا منهم جدارا فكري-دفعي, ووجهوا تركيزهم إلى الاعتداءات الفكرية الخارجي التي كانت في معظمها جماعات ممن ادعوا الإسلام و أطلقوا أسئلة تشكيكية عن الذات الإلهية والوجود وصارت تلك المناظرات إلهاما للفلاسفة والمفكرين والعلماء, وكانت في بعضها نواة لعلوم جديدة.. كما أن تلك الحرية الفكرية أوجدت انفتاحا سياسيا بما يعرف في زماننا بالتعددية الحزبي, فشكل تنوع الفرق الكلامية نوعا من الحماية الداخلية ضد التفكير المتطرف.
وصراحة لم أدرك المعنى الصحيح لكلمة تطرف إلا حين وفقت على سور دمشق القديمة وقال احدهم بجانبي ؟ هنا .. على هذا السور علق إبن المقفع صاحب كليلة ودمنة.. على هذا السور مات.
التطرف هو رفض للحوار و الأخر معا, التطرف هو عجز عن الإقناع لانعدام الحجة والبرهان, فلا تكون قوته إلا في فرض منهجه بالتعسف الفكري أو العنف.. لكن قصص أبن المقفع التي حملت بداخلها رسائل سياسية مبسطة استطاعت من خلال بساطتها أن تصل إلى العامة كانت أقوى
من أي تطرف..
لم تحبس جثة ابن المقفع أفكاره ولا كلماته بل تعدت الأسوار وطارت إلى كل مكان وترجمت إلى كل اللغات..
لا أحد ينكر أن أمتنا قامت على الكلمة والحجة والبرهان أو بمعنى أخر على اليقين والحوار للوصول إلى إقناع الآخر. لم تقم يوما بحد السيف كما قال بعضهم ويردد ذلك آخرون وإن كانت الفتوحات بالسيف فهي لم تكن إلا وسيلة أخيرة لفتح المدن المغلقة حتى يبدأ الحوار. وبهذا قامت أحد أهم الحضارات التي تعدت نظائرها في كل المجالات.. وكانت أول من أوجد المسائل وأجابت عنها..
(وجادلهم بالتي هي أحسن ) صدق الله العظيم

حكاية لما قبل النوم

كان يا مكان في قديم الزمان, كان هناك غابة كبيرة يعيش بها أسود كثير وكان بينهم أسد عجوز سيء المعشر خبيث الطباع, في يوم أراد أن يسود عليهم ويكون البطل فاجتمعوا عليه وضربوه وطردوه وعلمه بعضهم ما يكون الأدب.. فظل يسير أياما وليال إلى أن وصل إلى غابة خضراء يعيش بها بعض الضعفاء في سعادة ورخاء, فسأل واستعلم: أ لهذه الروضة من ولي؟
فأجابوه : بحمد الله لها ثلاثة ومن عاث في هذه الأرض فسادا فلن يكون إلا غبيا أو شقي !
فقال : قربوني من سادتكم فأنا في أمور السياسة والحكم عالم جلي,
فضيفوه وأكرموه وبعد ذلك إلى سادتهم صحبوه, فوجد نفسه أمام ثلاثة ثيران !
فقلل من شأنهم وقال : هذا يوم سعدي وأنا أمامكم الغالب..
فماكان إلا أن أحاطوا به فكان أول منسحب هارب !!
فحاول وحاول وفي كل مرة ينسحب . وهو جريح أخذ يفكر ويدّبر كيف يقبل معهم ولا يدبر, وهم لهم قرون وبأصول الرد والنطح عارفون, ففطن إلى أن قوتهم في كونهم أمام المعتدي متحدون وبالحب والتفاهم مجتمعون, ولو كانوا في ألوانهم مختلفون.. فكان أجملهم أبيض وأطيبهم أحمر وأرعنهم أسود..

- ماما غيري ألوانهم هذه المرة, اجعليهم هذه المرة بالأصفر والأخضر والأزرق !
- حبيبي ! لهذه الألوان معنى فعندما كتب ابن المقفع هذه القصة كان يرمز بالثيران إلى راية هند ابنة الملك النعمان ابن المنذر, جاءوا من اليمن وحكموا في العراق..
هند جمعت القبائل العربية تحت راية تحمل الألوان الأربعة لراياتهم وهي الأحمر والأبيض والأسود والأخضر استطاعت بهم ومعهم أن تنتقم من ملك شرير أهان والدها وقتله.. أسمه كسرى..
- وماذا فعلوا بعد ذلك؟
- تفرقوا من جديد وعادوا اجتمعوا ثم تفرقوا واجتمعوا إلى أن تفرقوا وتفرقوا وظن الكثير أنهم أخيرا اجتمعوا.. ثم تفرقوا !!
- أكملي يا ماما ! ماذا فعل الأسد بعد ذلك؟
- راح يراقب فيهم ويراقب.. إلى أن علم من منهم للفرقة طالب. كان الثور الأسود في الغالب عنهم يبتعد, والغيرة في عينيه لا تكذب !!
فقد كان الثور الأبيض والأحمر متفاهمان ولأسرارهما يقتسمان, وحين يحضر الثور الأسود يصمتان..
فالكل يعلم أن الثور الأسود هدَار وثرثار وليس بحافظ للأسرار !!
فانتظر الأسد إلى أن ابتعد الأسود وغاب عن الأنظار, فاتجه إليه وسلم وقال:
- يا صديق أراك في حزن وضيق !
- إليك عني وفارق, فما أنا مع مثلك يا ذا الأنياب بما في صدري ناطق !!
-أحزنني ما أحزنك ياصح, علمت أنك يا مسكين مظلوم !
ومن الكسرة التي في عيناك أدركت أنك ثور مهموم.. فانهض وسلم أمرك لي, أعلو لك وتعلو بي فأكون أنا الملك وأنت لي وزير !
فمن ساعتها لا يطلب صحبتك وجوارك وأنت مدبر ملكي وحافظ أمري؟ !!
فما افترقا إلا وهما على الغدر متفقان, وعلى الوفاء لبعضهما يقسمان فما كان من أمرهما إلا انتظروا الثور الأبيض عن صاحبه وقد ابتعد.. فاستطاعوا بالحيلة أن يستدرجوه, فأجهزوا عليه.. وذبحوه !
فقدم الثور الأسود على الأحمر فوجده على صاحبه الذي لم يرجع قلقا, مهموم.. فاقترب منه وقال:

-لا تقلق ياصح ! فما يلبث أن يرجع, فأنت تعرف أنه ثور محبوب ولعل أحدهم لوليمة دعاه, فما هو بصغير حتى تقلق وهكذا تصير !
وفي الصباح رفعت رايات الحداد, وتعالت الأصوات بالبكاء والنواح تطاير الوبر بندبهم في كل اتجاه.. وجدوا ثورهم مذبوح, وبقرون الغدر صار دمه مسفوح.. فما كان من الثور الأسود إلا ان لبس ثوب الحزين وتقدم الجنازة كالمسكين وهو يخور وينوح:

- قتلوك يا حبيبي قتلوك ! وبالغدر أخذوك, فما أنا عن لبس السواد بمنتهي حتى أخذ بثأرك.. أو أرافقك إلى قبرك !

مر يوم واثنان والثور الأحمر تائه حيران فمن في الغابة كلها له قرون إلا هو.. وصاحبه !
فماذا حصل في الدنيا حتى يبيع الثور أخاه, فيخون ويقتل, و يتآمر ويغدر. لكنه كان يتراجع عما شك فيه وفكر كلما جاءه صاحبه وحالته من الحزن تتدهور فهو مند أيام لا يأكل أمامه ولا يشرب كل الليل في المرحوم يرثي وباسمه ينوح في الغابة. يبكي يستبكي.. فرثى لحاله الخلق وحوله اجتمعوا, فصار بوفائه لذكرى صديقه رمزا وزعيم فكان لا يعقد أمر إلا وهو أول حاضر, ولا يحتكموا لشيء إلا كان مطاعا أمر.
وفي يوم كان مع صاحبه الأحمر جالسان, فإذا بالأسد قد حضر.. وهو في مشيته يتبختر. وفي عينيه عزم وبعض شماته فسلم عليهما وقال:
- بلغني أن صاحبكما قد مات, فجئت معزيا.. أحسن الله عوضكما فيه.
أجابه الأحمر وقد قرأ قي عينيه ما قرأ :
- عظم الله أجرك.. وبالفرحة لا تعجل, فإن ذهب واحد بقي اثنان !
- بل بقي واحد .. أنت ياصاح !! ونحن أمامك اثنان, ولن تجد عندي وصاحبي إلا الموت !!
فاجتمع الاثنان على الثور المسكين وهو يخور وبالخلق يستنجد ويستغيث, لكنهم لم يصلوا إلا وجسده قد مزق وفي كل جهة فرّق, فما تبينوا الدم من اللحم, فستنكر الخلق ما حل بالمسكين فاجتمعوا على ثورهم في حرقة يسألوه:
- ما ألفنا الدم في أرضنا يا أسود, وما أنت أمام ما نراه ببريء !
فقرناك بالدم تقطران وما هذا التمزيق بفعلة ثيران..
- بل فعلتي يا قوم, واشهدوا على فأنا لفعلتي لا أنكر فانتم علمتم أني وعدت ووعدي بمشيئة الله كان مفعول.. هذا الذي سفكت دمه سبقني وسفك دم صاحبي.. فهل تستنكرون علي فعلتي وقد عاهدتموني على ثأري؟ !!

وصدقوه.. وبما أتى عظموه وعلى الطاعة بايعوه.. فقدم على الأسد ليعلمه بما كان منه وما صار. وراح يذكره بقسمه بوعده وعهده.. وأنهما على الأمر اثنان ! فضحك الأسد وقال:
- على الغدر يجتمع اثنان.. لا على السلطان !! وهو لا يكون إلا لواحد.. الأقوى ! فما ترى؟
- لن تسود إلا بي.. فالبيعة لي ! والخلق يأتمرون بأمري !
- أحمق !! من قال إني أريج بيعتهم ورضاهم؟ !! فقد صار الأمر لي وعليه الآن أحد لن ينازعني !!!! ولا أخفي عليك أني مند رأيتك اشتهت نفسي لحمك, والآن فقط سأهنئ بتمزيقك كما أريد وأكللك !!
وليكن لك شرف ذلك.. ستكون أول ما أفترسه على هذه الأرض التي صارت وما عليها ملكي وبأمري !!

- لكن كيف تفعل هذا بي وأنا من باعك حبيبا وصديق.. وصار لك تابعا وحليف؟!! وإن كان السلطان لك الآن فأنت بحاجة مخلص مثلي يكون لك تابعا وخادم, فانظر في أمري بالعفو فأنا برحمتك طامع..
- من باع أخاه باع غيره !! وما أنا بحاجة خادم غدّار , طامع.. وما كنت عندي إلا وسيلة لكي أسود وأفرق.. وقد سدت وانتهى الأمر !!
فانتفض عليه وانتهى معه زمن الثيران, فصارت الأرض غير الأرض, وانقضى
زمن الأمين الأمان, وصار كل طريد فاسد يحط رحاله فيها ويقدم للأسد الطاعة والولاء..

- حبيبي.. نمت ! نوما هنيئا.. وأحلاما سعيدة..

وضعت الكتاب جانبا, وهي تحاول أن تفهم لما يصر صغيرها الذي لم يتجاوز السابعة من عمره على أن يسمع نفس الحكاية مند ثلاثة سنوات, فلا أحد يعلم بالتحديد ما يفكر به الصغار, فحين نكبر ننسى كل حكايات الجدات ولا نتذكر لما كنا نسمعها بفرحة ونطلب سماع نفس الحكايات كل مرة !!
من المجموعة القصصية حكاية لما قبل النوم 2006 - (آمال عكيفي)

0 التعليقات:

إرسال تعليق


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..