خاطب.. خاطف من بني ضبيان

إهداء إلى كل أصدقائي الساكنين في قلبي البعيدين بعد اليمن..


تخزين القات في اليمن ليس فقط جلسة لمضغ القات والسؤال عن أحوال الحاضرين الغائبين.. هي جلسات للتحدث في كل شيء وعن أي شيء.. ومناقشة تلك المواضيع كل حسب خلفيته الثقافية أو العقائدية.. وأحيانا تكون التخزينة جلسة طارئة لتباحث مشكلة عائلية أو عرفية.. وكل نتائج تلك المباحثات تظل رهينة بنوعية القات الذي حظر تلك الجلسة..

بداية حكايتي مع القات كانت داخل مجتمع الجالية الحبشية.. لم يتسنى لي تبادل الحديث إلا إذا تنازل الحاضرون وحولوا نقاشهم إلى اللغة العربية.. وإلا تظل مشاركتي كنوع من المشاهدة لفيلم أجنبي باللغة الامهرية.. لذلك وجدت متعة أخرى بتعاطيه مع أصدقائي اليمنيين من ذمار وخولان..

وجدت لي عائلة يمنية فتحت لي أبوابها كفرد متميز بينها.. كنت استمتع بالحضور كمشرفة جلسة لزوجين من أبناء العمومة وحين يحظر الأقرباء يتم إشراكي كحكم لتلك الجلسات ومستشار للتحكيم لكل مشاكلهم العائلية والمادية.. وكلما نجحت استشاراتي وصدقت توقعاتي كلما صار مجلسنا مقصدا أول لآخرين..

كانت تلك الجلسات تحلو أكثر حين يجتمع الأقرباء من دمار مع أصدقائهم الخولانين الذين كانوا في الماضي زملاء كفاح ضمن حراسة أحد شيوخ بني ضبيان.. حيث كانت أحاديثهم عن القبيلة والعرف وكودها القبلي عالما غنيا بالمعرفة للوجه الذي لا أعرفه عن اليمن.. وهكذا كان عشقي لليمن يزيد أكثر حين أربط سياسته القبلية بتاريخه الذي اجتهدت في كشف أسراره.. والتي للأسف قدمت أثاراها للنسيان..

وهكذا يوما عن يوم صرت فتاة متقبيلة بامتياز.. فقد تمكنت من استيعاب وتشرب ذلك الكود وصار سلوكي وحديثي يحمل بصماته بوضوح.
مع مرور الوقت صرت من خبراء القات.. وأصبحت لدي قدرة على معرفة جودته من شم رائحته فقط.. وتوقف ولعي عند قات رطب الاعواد او كما يسميه أصدقائي (القات أبو ربل !!)

لم يكن القات أبو ربل مجرد قات بالنسبة إلى.. وإنما صار مصدر للإلهام والثرثرة الجادة !! أو بمعنى أخر صرت أكثر اجتماعية وأكثر قدرة على جعل الآخرين يتحدثون عن كل ما أريد معرفته.. والاهم من هذا كله.. طورت خاصية الإنصات للآخرين وبعدها التضامن معهم !!
ومن أطرف قصص التضامن تلك.. قصة التخطيط للخطف مع بني ضبيان !!

-2-
معرفتي ببني ضبيان كانت سطحية.. لكن بالصدفة وجدت نفسي حاضرة في إحدى جلسات أصدقائي في أحد الليالي الرمضانية بصحبة شيخ من بني ضبيان..
الشيخ جاء ليبارك العشر الأواخر لرجال الكفاح السابقين ورجال الاحتياط الحاليين.. كانت نظراته التائهة في اتجاهي تخبرني بأنه على علم مسبق بحضوري.. وحضوره هو ما كان إلا فضولا للتعرف على من تنازعه سلطته المعنوية على رجاله..

الشيخ لم يقدم نفسه كرجل عصابات كما كنت أسخر منه دائما حين يبدئ أحدهم بسرد مغامراته مع شيخيه, فهو حسب أقواله يعمل محامي شريعة.. يدافع عن الضعفاء ممن سلبت منهم أراضيهم بالبسط.. كيف؟ بأن يشتري تلك الأراضي من ملاكها الأصليين (أي الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله, وطبعا بثمن بخس!!) ويبسط من جديد على الظالم (الباسط الأول على الأرض) !!
حيث يبدئ مشوار العراك والرصاص والمحاكم للاسترداد تلك الأرض بالحلال !!
منطق مقبول مع القات !! لكنه يختفي حين افرد سجادة الصلاة للتهجد والاستعداد لصيام يوم جديد.. أجد الشيخ يحضر في صلاتي بكل منطقه.. فلأجد سوى الدعاء له بالهداية..
فذلك المسكين لم يعرف في حياته سوى ذلك المنطق وكل جاهل له عذره !!لكن حين أستوعبت أن الشيخ الضبياني هو رجل دولة أسسها في حدود قريته.. تساءلت إن لم يكن المنطق يخذلني في مسألته..
ومسحوبة لمعرفة المزيد عنه.. كنت أصغي باهتمام لكل صغيرة وكبيرة يقولها علني أستطيع معرفة تركيبته الشخصية وحقيقة ما يفكر فيه لا ما يقوله..

أغلب قصصه كانت عن أسفاره العديدة منها الصين بدون مترجم !!

-إذا ذهبت إلى الصين فاحذريهم.. الصينيون محترفون للنصب.. لكن كله ولا النصب حق المصريين !! هل ذهبت يوما إلى مصر؟

-نعم مرتين و لم أحب إقامتي القصيرة فيها.. علي يمينك وشمالك مصحوب بالنصابين.. لكني كنت أذكى منك في الصين.. بمجرد وصولي إلى القاهرة.. أخذت أتحدث باللهجة المصرية.. وبمجرد أن يظهر جواز سفري ويعلموا جنسيتي أجد أولاد الحلال بجانبي.. الذي يشتي زوجني أخوه.. والذي يشتي يعرفني على معالم القاهرة.. يدهشك إصرارهم العجيب مهما حاولت الرفض !!

-وماذا فعلتي في الأخير؟

-كنت استلقط لي أي أحد من طلاب الأزهر اليمنيين من الطائرة وأطلب منه ألا يفارقني والطاكسي على حسابي.. وكل من يسأل يقول إني خالته..

-أنا عندما نزلت مطار القاهرة أوقفوني ساعتين وبعدها ذهبوا بي إلى مديرية الامن حقهم.. حققوا معي ست ساعات..

-لاتقل لي ياشيخ أنك فاتح مشاريع للمشارعة حق أراضي حتى في مصر !!

-هما كانوا يسألونني عن زيارة سابقة.. زيارة عصيد من أولها.. كنت نزلت يومها للقاهرة بالبدلة والكرفته.. والسائق مع أناقتي ظنني شيخ من حق الخليج.. عرض علي شقة مفروشة بمئتي جنيه.. قلت خدنا نشوف هذه الشقة حقك.. وجدت نفسي بعدها في شقته.. قلت له فين هذه الشقة حقك.. مكني موجودة لا تقلق ياشيخ أنا حبيت أخذمك وعاملك مفاجأة استنى راح تجي حالا.. بعد ساعة جاب لي أخت مرته وقال يشتي يزوجني مقاولة حق شهر !!

-ياحظك ياشيخ.. شقة وعروسة.. أكيد كانت صفقة موفقة !!

-قضيت ثلات ساعات اقنع فيه أني مستعجل وعندي موعد مهم.. في الاخر وصلني عند صاحبنا المصري في الجيزة,, عنده فيلا في الجيزة.. فيلا كبيرة.. قولي مزرعة.. بعد الغداء أخدني يفرجني على سلاح في جبل..

-عندهم حق يوقفوك ياشيخ.. أكيد صاحبك هذا واحد من أصحاب الجماعات الارهابية .. وإيش رايح تشتري سلاح في جبل وفي مصر !!

-ياستي السلاح عندنا في اليمن يباع في الاسواق من المسدس للدبابة.. وأنا قلتها للضابط حق المديرية.. أنا قبلت عزومة صاحبنا لا أقل و لا أكثر من ذلك.. يروحوا يحققوا معه في الجيزة إذا هم يعرفون كل شيء عنه..

حاول تغير الموضوع بالسؤال عن أحوال صاحب المنزل..
-كيف حالك أنت يا هاشم, مبسوط في العمل؟

-والله يا شيخ نحمد الله.. لو تركونا فقط الحبوش في حالنا راح نكون أحسن..

توسع النقاش عن مافيا الأحباش التي سيطرت على كل الوظائف لدى الجالية الأجنبية وأكثر من ذلك.. تفانيهم في اضطهاد العمالة اليمنية واستيلائهم على وظائفهم لصالح أحباش آخرين.. وكيف يعاني صاحبنا من الاضطهاد والإيذاء النفسي يوميا إما بتعليق أو باختلاق لمشكلة أو دق مسامير له لدى عمه.. و انتهت الجلسة بتضامننا مع صديقنا الذماري.. وصار موضوعه حديث الغد الذي تصادف مع دق مسمار جديد واستغلال جهله باللغة الانجليزية..

كان الذماري في حالة نفسية متدهورة وظل طوال الليل يتحدث عن مشكلته ونحن ننصحه بالدعاء عليه في تلك الليالي المباركة.. ونقطع معها أحاديثنا بالتسبيح ثارة وبالدعاء ثارة.. وكان للدعاء لصاحبنا بالنصرة نصيب أيضا في صلاة الثلث الأخير..

في اليوم التالي تناولنا الإفطار مجتمعين لدى صاحبنا, وفرقنا ككل يوم ما استطعنا على الصائمين من دون عوائل في الحي وبعد صلاة العشاء انتظرنا عودة صاحبنا من المقوات.. مصحوبين بتلك النشوة الروحية بعد يوم اجتهدنا فيه كي نرضي كل من صادفناه..

-اليوم جبت قات خولاني راح تدعي لي بعده..
شممت رائحته وقلت-رائحته قوية,

- أظنه قاتا جيد.. أعجبني لونه.. هات تنشوف قات بني خولان راح تكون تخزينته كيف !!

ابتدئ الحديث بتلقائية عن بني خولان وأخذنا بالسخرية من الخولانين الحاضرين كونهم اصحاب مشاكل على حد قول أحد الدماريين فبنو خولان من وجهة نظره.. المضاربة في دمهم.. وإذا لم يجدوا لهم خصوما يكتفون بمحاربة بعضهم البعض !!
أخد الحديث يتوسع مع التخزينة عن حوادث الخطف التي اشتهرت بها قبائل خولان وقدرتهم الفطرية على إدارة المعارك.. باستغلالهم لإستراتجية منطقتهم وكيف كانوا يقطعون الطريق على الشاحنات المحملة بالمئونة لقرى أعدائهم كنوع من الحصار..
وهكذا وجدت نفسي أسخر من قات بني خولان وأقول.

-مع هكذا تخزينة أكيد راح ننتهي بخطف عمك وأعوانه الحبشيين !!

أجابني أحد الخولانين
-الخطف فن وتخطيط وعلم لدى بني خولان !!

-إيش رأيك إني راح أعملك خطة .. هه حضرت ببركات قاتكم.. أستلم هذه الخطة !! اسمع هذه.. سنأتي بأناس موثوق بهم.. يترصدوا خط سير عمه.. وبعدين يصطادوه مع فترة الافطار فهو دائما يرجع بعد الافطار بقليل.. ويحجبوا الرؤية عن السواق وعمه.. ثم يقودانهما إلى مكان ويجردانهما من ملابسهما.. وبعدها يأتوا بلوحة مكتوب عليها (هذا جزاء من يتعالى على اليمنيين ويسخر منهم) ثم يغطوا ما بين الصرة والركبة.. مع تسجيل الموضوع على تليفون بشريحة للذاكرة.. وبعدها يرجعوا بالرجل إلى بيته.. أما السيارة فهي حلال عليهم ولو فصلوها قطع غيار يكونوا قد أخفوا كل معالم العملية..بعدين يجيبوا التسجيل ويعملوا منه نسخة أولى لمدير الشركة.. والثانية يحطوها على يوتوب.. هكذا فضيحة كفيلة ترجعه إلى بلده بالإرسالية السريعة..

-والسواق !!

-تكفيه الخبطة تعلمه الادب !!

-طيب من فين تجيبي الجماعة !!

في تلك اللحظة رن هاتف الذماري ليبتسم في خبث قائلا
-هذا الشيخ !!

بدون تردد قلت له وأنا أرمي بالقات للخولاني
-خزن .. الان راح نشوف رأي الخبير أبن جيرانكم والجماعة أكيد عرفتها !!

-3-
-هه ما رأيك يا شيخ في خطتي؟

ابتسم وهو يقول
-خطة جيدة.. تروحنا كلنا للى السجن انشاء الله!!

-خطتي فيها ثغرة؟

-ما فيها ثغرة.. فقط الذي راح تخطفوه ما يعدل كفة العملية.. والاحوال الذاخلية هذه الايام لاتشجع على أي تحرك غير محسوب.. لكن خليني أفكر فيها.. وأرد عليك غذوة..

تحولت تلك المزحة إلى مشروع جدي طال فيه الحديث لليوم التالي لدى أصدقائي باستثنائي كعقل مدبر لتلك الخطة.. فقد استيقظت في اليوم التالي دون مشاعر التحمس التي نمت بها..

وجاء الشيخ بعد صلاة العشاء والذي حضره بالصدفة قات بني خولان.. سألني وكأنه يعلم مسبقا الجواب..
-مازلت على الموضوع حق البارحة !!
وجدت نفسي أجيب بطريقته وأقول ما لا أفكر فيه !!

-أعجبتني الفكرة يا شيخنا..و أريد أن أختبر كفاءتي في التخطيط !!

-أنا أشهد لك أنك مخططة عظيمة !! وهذه ميزة إضافية لما وجدته فيك.. ذكاء وثقافة وتخطيط وجمال خسارة أنت في السجن.. إيش رأيك تتزوجني وتخططي لحاجات ثانية؟

أخدت حديثه على سبيل المزاح وأنا أقول
-ما خططت بعد لهذا يا شيخ !!

-أنا جاد في طلبي..

ساد الصمت المجلس بين حذر ومستغرب ومتفاجأ.. فتابع الشيخ
-هذا ما قررته البارحة..

التزمت الصمت وكأنني لم أسمع ما قاله.. فتابع
-أنت تتساءلين ما الذي شجعني على هذا القرار؟

تجاهلت غروره في السؤال و أجبت مشفقة عليه مما أفكر فيه بمراوغة..

-ليس من الذكاء أن تسأل امرأة خاطبها عن سبب طلبه.. لأنه لن يقول أبدا السبب الحقيقي لقراره !!

-بصراحة الفكرة حضرتني من أول يوم..

-هذا يعني انك سمعت عن أخباري قبلا.. وإلا لما فكرت في الموضوع بتلك السرعة؟

-كنت متشوقا لكي أتعرف على من صارت قدوة لرجالي حتى صاروا لا يقطعوا بكبيرة ولا صغيرة دون الرجوع إليها..

ظللت صامتة لوقت وأنا أرتب مزايا الشيخ ومساوئه.. فإذا وافقت يجب أن أبرمج حياتي على كوني زوجة لرجل يرى نفسه زعيما في قومه.. ولا أراه إلا كقاطع طريق.. لكن يبقى هذا الشيخ صنعة ظروفه.. ربما أستطيع أن أجعل منه رجلا آخر.. أكون مغرورة إذا صدقت أني قادرة على ذلك !! فرجل بعناده ليس بالسهولة تغير تفكيره واستراتجياته المستقبلية.. فقد تعود أن يصل برجاله وسلاحه إلى أهدافه بسرعة دون تعب أو انتظار..فإن غيرت تفكير رجاله وأفكارهم المغلوطة عن الشرف القبلي اليمني وجعلتهم يستوعبون أين تتلاقى تلك القيم مع الاسلام كدين يدعوا للأخلاق الحميدة.. والاعراف القبلية التي جاء كدين ليكملها.. فلن أكون قادرة على أقناع مرتد عن تلك الاعراف كشيخ بني ضبيان باعتباره واحدا من شيوخ كثر حرفوا وشوهوا المعاني العميقة للانتماء القبلي ليتماشى مع مصالحهم المخجلة في رحلتهم للبحث عن سلطة المال والتبرئ من سلطة الشرف..لكن مع كل ما فكرت فيه وجدت نفسي أقول للحفاظ على كبريائه أمام رجاله

-الخطف يمكن التحدث عنه في جلسة قات لكن الزواج قرار يسبقه استشارة ثم استخاره.. لهذا.. موافقة إلى حين..

-تمت-

0 التعليقات:

إرسال تعليق


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..