يوميات معارض مبتدئ (3) حكاية مجيب


من المجموعة القصصية (حكاية لما قبل النوم)
كاتب النص :آمال عكيفي

رقم الايداع :319 لسنة 6-7-2005م بدار الثقافة
قدمت للنشر لدى مؤسسة التوجيه المعنوي بصنعاء يوليو 2006
يوميات معارض مبتدئ (3) حكاية مجيب

مجيب لم يكن يتجاوز 19 من عمره لكن طموحه ومواهب الخباثة العالية التي كان يمتاز بها جعلته يتسلق بسرعة رؤوس كل من صادفهم في حياته, من رفاق الصف, ورفاق العمل إلى كل من مثل دور المسكين أمامهم, المظلوم في هذه الحياة بفقدانه الأم والمقهور من جبروت الأب !وبكل قصصه الكثيرة المختلقة التي استطاع بها أن يفتح محافظ المحسنين وأبواب مجالسهم.. ومن لا يعرف مجيب في الانتخابات !
فقد تجده في الوقت ذاته كذاب زفة, ومخبر, نصاب ومتآمر مزدوج فلا يعلم أحد إن كان مع المعارضة أم مع الحزب الحاكم م مع أمن الاستخبارات !!
واستطاع هذا الفتى أن يكون في وقت قياسي علاقات لا بأس بها مع بعض التجار والسياسيين, والصحفيين والامن وحتى الجيش.. فمجيب كان ذلدولا من الطراز الرفيع وكل من يمكن أن تطلبه منه يستطيع فعله !
من البلطجة تم تجارة الممنوعات إلى التجسس على من تريد وكما تريد !!
في يوم كلف صاحبنا بمهمة خاصة نوعا ما.. فما كان منه إلا أن انتظر في المكان الذي حدده المتصل, ليسلم ويستلم لكنه فوجئ بزبونه الجديد يدعوه إلى مرافقته :
-الاستاذ عايز يشوفك.. اركب..

وجد نفسه أمام رجل بدا من هيئته وتعاليه أنه من اصحاب الحل والربط في البلد !! أشار إليه بالجلوس وهو يقول :
-اجلس يا ابني.. بيحكوا عنك أنك ولد جرئ وذكي وماعنخاف عليك..
-خدامك ورقبتي فداك يا أستاذ..
-كل ليشتغلوا عندي لازم رقبتهم تكون فدايا وفدى هذا الوطن يا مجيب.. ولو حصل غير, ساعتها الذبان الازرق ما يعرف طريقك.. هذا الكلام حطه حلقه في أذنك وما تنساه طول عمرك ياأبني..
-من غير ما توصي حريص ياأستاذ أنا هذه رقبتي جرها فين تشتي..

هكذا أصبح مجيب ذلدولا خصوصي !! وتفنن في التذلدل لسيده الجديد حتى يكون راضيا عنه.. وأصبح في أسابيع محط ثقة السيد المحترم. وكان الفتى قد خبر عادات سيده و أدرك جيدا أنه بمجرد أن يتعدى نصف القارورة يصبح كالطفل في كل شيء. والسعيد من يحقق رغباته مهما كانت واضعتها, من التحرش بالنساء إلى التهديد بالقتل بهاتف السيد الذي يحمل خدمة رقم خاص إلخ, إلخ.. وكل هذا كان يجيده مجيب بدون اعتراض لدرجة أن سيده كان يختنق من شدة الضحك أحيانا ! ويكتفي بالقول وهو يحاول التقاط أنفاسه المتعبة من الضحك والخمر !!

-أنت ولد جن يامجيب.. هؤلاء كلاب.. يريدون تدمير هذا الوطن ! ونحن كلنا يجب تكون رقابنا فدى هذا الوطن
فيجيبه ككل مرة في تذلدل :
-وأنا رقبتي فداك وفدى الوطن يا أستاذ.. تأمرني بشيء ثاني يا أستاذ, أنا هذه رقبتي ! رقبتي فداك وفدى هذا الوطن جرها فين تشتي !

لكن أيام العسل لم تدم طويلا ! في ليلة وجد سيده يدعوه إلى مجلسه وبصحبته رجلين لم يراها من قبل, استقبله الثلاثة بنظرات ملئها الاحتقار والشماتة, تشتت معها أكثر حين تساءل أحد الرجلين في استغراب قريب إلى التهكم :

-هذا هو الكلب عيستخدم تليفونك !?!
-إيه هذا هو الكلب ابن الكلب.. ولو ماطلبتموه أنا كنت عذبحه ورميه للكلاب..

هكذا وبقدرة قادر وجد نفسه مسحوبا كالكبش إلى السيارة كان يتمنى أن يطول الوقت ولا تتوقف السيارة وهو يحاول كسب الوقت ليجمع تفكيره من جديد, كان يحاول أن يستوعب ما يحدث له أو على الاقل يخمن ما سيحدث عندما تتوقف السيارة, كان كلما انعطف السائق إلى مكان خال يوشك قلبه أن يخرج من مكانه.. لم يستطع إيقاف الرعشة التي سيطرت عليه لدرجة أنه كان غير قادر على المشي حين أمره أحدهم بالنزول. وكأن ذاكرته أصبتها ثقوب, فلم يعي كيف اجتازت السيارة البوابة ولا حتى متى توقفت في الفناء..
استسلم لكل ما يحدث له أخيرا فإما السجن أو الضرب.. ولو أنه لم يستطع بعد أن يستوعب ما الذي فعله أو بمعنى أصح علي أي شيء قدم ككبش فداء. فليس له الان إلا الصبر أمام سيد قادر على نسفه لو ورطه بأي شيء, فالعقد شريعة المتعاقدين وهو تعاقد معه على رقبته, فلا ضير أن تطير رقبته فهي لا تساوي شيء أمام رقبة السيد الذي أوشكت كل الرقاب أن تصبح ملك يمينه وفداه !!

أتاه صوت هادئ خيل إليه أنه مألوف جدا وهو يقول :
-اجلس يا ابني ما تعبت من الوقوف !?

تجمدت أطرافه وهو يجد نفسه وجها لوجه.. أمام رجل يدرك جيدا أن خباثته وكل فلسفات الشارع لن تنقده منه إذا لم يقتنع ببراءته, أخرجه من جموده وهو يسأله في خبث :
-تشتي تدقني يامجيب ? أعرف الاول تشتي تدقني ليش !!?
-أنا رقبتي فداك وفدى هذا الوطن سيدي..
-أنا لرقبتي أعطيها لك تدقها لو لقيت إن دقها لمصلحة هذا الوطن.. يا ابني أنا مسؤول عنك وعن كل هذا الوطن.. سأحاسب امام الله عنك وعنه.. وأمثالك جزء منه لا يمكن إقصاءه لكن يمكن إعادة تربيته وتأهيله..
أنا ما عسألك لما هددتني بالقتل.. لكن عسألك بعد عشرين سنة عتعمل في البلد هذه إيش؟ !! لو كنت ما أكملت عشرين سنة وما تركت مصيبة ما عملتها.. أكيد لو تركتك, بعد عشرين سنة ثانية عندورك عامل تنظيم يغرق البلد كلها دم وأنا ساعتها من سيحاسب أمام الله والوطن لأنني تركتك تكبر على عيني !!
-ياسيدي الشيطان شاطر وأنا ما كنت أعرف والله والله أنه رقمك.. يا سيدي أنا رقبتي هذه فداك.. وفدى هذا الوطن..
-أنا ولا يري واحد يا ابني.. عملين قانون لمن في هذه البلد؟ !! لك ولغيرك ! يحميك ويربيك ! وأنا كمواطن تروعني لما من غير حق؟ !! رقبتك هذه لرخيصة عندك هي غالية عندنا.. رقبتك ما تتبرع بها إلا لخالقك ولوطنك ولشرفك.. ماهي حلال لغيرهم.. فهمت يا ابني ما الذي أريد قوله بالضبط !!
-فهمت .. فهمت..
-مقتنع إنك محتاج تربية !!
-رقبتي هذه جرها فين تشتي ياسيدي..
-يبقى كلامي ما وصلك على النحو المناسب.. أنا عرسلك مكان تتعلم فيه شوية وطنية وهذا يا ابني ليس بعقاب.. هذا فقط الذي قدرت عليه حتى لا أحاسب عليك في يوم.. (أن يخطئ السلطان في التبرئة خير من أن يخطئ في العقاب).. أشتيك تقتنع كليا أن رقبتك ورقبة غيرك ليست للإيجار, ويجب أن تعرف بعد ذلك لمن تتبرع برقبتك ومتى !!!

بعد ساعات وجد مجيب نفسه في معتقل سياسي, ظل صامتا لزمن طويل وهو يجمع بذاخله غضبه وألمه كلما تذكر أنه كان ذلذولا وانتهى به الامر ذلذولا. فأين هو من كل من حوله.. كل واحد منهم سعيد بسجنه وبما هو عليه فالسجن وسام وطنية بالنسبة إليهم, كل واحد منهم يدرك أن له باعا في هذا الوطن, حتى السجن هو بالنسبة لبعضهم بناية فقط فوق أرضه. أخرجه أحدهم من صمته وهو يقول :

-ألن تقول لنا إلى الآن أنت تبع من؟ !!

أستفزه السؤال وكأن شيئا استيقظ بداخله فجأة فأجابه في حدة

-تبع الوطن !!!

ارتفعت ضحكاتهم كاسرة صمت السجن المغلق فأشار إليهم أحدهم بالسكوت وهو يتابع :
-يا ابني كلنا تبع الوطن ! أنت تبع أي تيار أي حزب؟ !!

-الله المستعان ياجماعة !! أنا طول عمري يغششوني أي حاجة يلزمها حفظ أو إستيعاب !! حتى هنا غششوني الوطنية قبل ما أدخل عندكم, لكن أنتم لستم بحاجة مثلي لتغشيش. ما شاء الله عليكم مثقفين وتفهموا بسرعة !!
أنتم هنا يا جماعة ببساطة لكي تستوعبوا جملة واحدة سهلة الحفظ .. أحنا تبع الوطن مش تبع أحد.. إحنا تبع الوطن مش تبع أحد.. إحنا تبع الوطن مش تبع أحد !!!!!!!!!!!!!!!!!!! تبع الوطاااااااااااااااااااااااااااااااااااان مش تبع أحد.. مش تبع أحد..

-تمت-

0 التعليقات:

إرسال تعليق


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..