يوميات معارص مبتدئ (1)

تفحص الجريدة وعيناه يملئهما اليأس وهو ينظر إلى مقالته الصغيرة التي شطب منها الكثير ككل مرة بدعوى أنه حشو لا داعي له.

لقد كان مؤمنا أن عمليات الاستئصال هذه لمقالته هو ما سيبقيه صحفيا مغمورا إلى الابد ..

لا أحد يصدق أنه صحفي حتى صاحب البقالة الذي امتنع عن تزويده بأي شيء لعدم التزامه بالدفع وأصبح يعامله باستعلاء وعظمة, فهو صاحب البقالة المحترم وهو مجرد زبون غير محترم !!




كلما تذكر شكله وسط جمع ما يصاحبه شعور بالغضب, لا أحد يعيره إهتماما, لا أحد يصوب عدساته نحوه, بلا جدوى يحاول إقتحام نفسه في كل نقاش لثير الاهتمام وهو يحاول تصيد أي نقطة يثبت بها أنه من المثقفين وأنه على أطلاع دائم.. لكنه كلما حصل على فرصته تضيع كل الكلمات التي جمعها, يتبلل قميصه بالكامل عرقا, ويصطدم بنضرات من حوله الغير المشجعة فيزداد تصببا أكثر فأكثر, ويتحول أمام الجميع إلى فارغ وتافه مثير للشفقة.

وفي القائمة الطويلة زوجته أيضا, التي كانت مبهورة به في بادئ الامر وأصبحت هي الاخرى لا تتوانى عن اتفزازه كلما سنحت لها الفرصة, ولا شيء يستطيع ردعها الان !!

نظر إلى زوجته وهو يقول في نفسه (كذب من قال وراء كل عظيم أمرأة!!).
وكأن زوجته قد قرأت أفكاره فقالت في خبث :
- إيش ما نحنا عجبيناك؟ !!

- تطير بثلاث, بيتك وزوجك وحصانك !! من يوم ما عرفتك وأنا ورا..


- لو عرفت تكون راجل ما كنت بقيت ورا !!


حاول تمالك غضبه وهو يرى ذلك التحدي في عينيها وهو يتساءل من أين تأتي بتلك القوة, من ضعفه أم من فشله المزمن في ان يثبت لها أنه الرجل !!

لها كل الحق ما دامت صاحبة القوامة في منزله !!
تظاهر بعدم الاهتمام إليها وهو يتابع شريط الاخبار أسفل الشاشة لكنها تابعت في خبث وكأنها تعلم كلما يهمس به لنفسه :

- مشكلتك أنك عامل مثل جحا لما قعد على الارض يستني ربنا ينزل عليه مليون ريال..


أجابها مستهزئا

- إيش أروح أسرق لي ولا أرتشي !!

- الاول خلي الناس تعرفك ليش أنت تسوى حاجة حتى يرشوك !!


- كيف ياشجرة الذر !!


- شتم لك مسؤول.. يحبسوك يومين وبعدين تصير مناضل واسمك على كل لسان..

لمعت عينيه فجأة وهو يقول في حماس
- أنا أشوفلي وزير فاسد وفضحوا !

- راح تبقى تشوف عمرك كله عند رجليك ?!!

كل الصحف تشتم الوزرا..

- أشتم رئيس الوزرا؟


- ما عملت حاجة


- مين أشتم؟ منو فاضل غير..


- هذا ! أنت داخل السجن أدخل على حاجة تستاهل !!


تمالكته رعشة لا يعلم إن كانت من الخوف أو من حجم الضحية وهو يجيبها في توثر

- صحيح النساء ناقصات عقل ودين..

- انظر إلى الامر من كل الزوايا أيش الحاجة لقاعدة الدنيا وقايمة عليها غير الاختراع الامريكي الجديد : الديموقراطية للجميع !!


- ظل صامتا وهو يحاول أن يصل إلى ما ترمي إليه فتابعت في لؤم
- قل إنه ديكتاتور.. لما تذخل السجن قضيتك تصير قضية رأي عام, المنضمات تتدخل والصحافة تهدر !!
لاذ بالصمت وهو يحاول إعادة حساباته, في البدء حاول طرد الفكرة من رأسه لكنها ظلت تختمر بداخله, (كلها بضع أيام في السجن, أشهر حتى أو ربما سنة على أبعد تقدير المهم ما سيحصل بعده والاهم من ذلك أنه سيستريح من كل القهر الذي يعيشه.. على الاقل سيأكل ويشرب ولا مصاريف ولا مسؤوليات تتبعه, وبعجزه الاختياري لن يضطر إلى تبرير عجزه المفروض..)


ولم يجد صعوبة هذه المرة في كتابة مقالته بسرعة. فما يريده كان يريده بنفس السرعة.
فتح الجريدة وكأنه يفتحها لاول مرة, فتحها وهو يتمنى ألا يجد مقالته وشكك للحظة في أن يجدها, لكنها كانت موجودة..
خالجه ساعتها شعور بالخوف أنتشر بذاخله بسرعة جعلته يتشتت بين نادم وضائع, أخذ يفكر بما سيحدث بعد لحظة أو بعد ساعة, ومع انتظاره المعذب صار الزمن بطيئا جدا, كان يقفز من مكانه كطفل مذعور كلما طرق بابه أو رن جرس هاتفه وهو يبتهل في صمت قريب للبكاء :
-(إنا لله وإنا إليه راجعون’ اللهم لا أسألك رد القضاء وإنما أسألك اللطف فيه..).
ومر يوم وإثنان وهو لا يزال ينتظر من يجره إلى السجن وكان شعوره بالعظمة لا يظهر إلا أمام البقال لكنه يتلاشى بسرعة كلما نظر إليه في استعلاء كعادته وهو يذكره بحسابه المجمد لديه!!

كان ينتظر منه أن يسأله عن مقالته أوحتى أن يرى بعض الفضول في عينيه لكنه ظل ثابتا في استعلائه فقد علم هذه المرة أن البقال لا يقرأ الجرائد وبالتالي لم يره ولن يره كما يريد !!


ومر يوم آخر وآخر ولم يتغير شيء لا طارق على بابه و لا أحد سأله عن ما كتبه, وأمام صمت زوجته اللئيم كان لا يجد لنفسه سوى التبرير :

ربما كان العنوان غير لافت للنظر.. أيعقل أنه لم يقرأ ما كتبته عنه؟؟
اجابته في مرارة:
المعقول الاكيد هو أنك فاشل ولا أحد يقرأ ما تكتبه !!

لأنك ببساطة تكتب عن نفسك لا عن غيرك..

تمت

من مجموعة : حكاية لما قبل النوم/2006
نشرت بجريدة الثقافية العدد 247

0 التعليقات:

إرسال تعليق


أهلا بك في بيتك

أهلا بك في بيت القصة.. يهمنا أن تشاركنا بقصتك القصيرة.. مهما كانت قصيرة.. فهي تعنينا.. بيت القصة هو مكان لكل القصص القصيرة كانت من مخيلتك أو من مداعبات الواقع.. راسلنا على هذا العنوان amal.akifi@gmail.com..
سنهتم بتقييمها ونشرها,
بشرط أن لا تحمل مساهمتك أي إساءة لفظية ضد شخص بعينه أو دين..